2015-10-10 

عالم لي كوان يو المضاد

سمير عطالله

كان سعيد عقل يكره نابوليون بونابرت والاسكندر المقدوني، ويقول ساخراً "في ناس بيسموا ولادن اسكندر؟". سبب الكره أن كلاهما خرج من بلاده ليحتل بلاد سواه "شو بياخد اسكندر عَ الهند؟ شو علاقتو بالهند؟". لكن الدنيا، في معظمها، ليست مصنوعة من أجل سعيد عقل والدالاي لاما والأم تيريزا، التي ذهبت إلى الهند لتعتني بالبرص وطبقات المنبوذين وهوامش البشر. هناك اشياء كثيرة سخرت منها في سعيد عقل. تناقضاته بين الفكر الإنساني الكبير كالامتعاض من اطماع وغزوات "اسكندر"، ولحاقه بصغارات السياسيين وتمجيد مرحلياتهم الخادعة، واشتهاء الوقوف في صفوفهم. لقد ازدرى اسكندر وبونابرت، لكنه سار هنا في مسيرة العنف وشجع على القتل ودعا الناس إلى الموت، مثله مثل حامل مدفع. لكن المسألة ليست سعيد عقل. المسألة نابوليون (أو اسكندر) الذي بنى الامبراطورية الفرنسية وأنقذ باريس من توحُّش روبسبيير وانتهازية ميرابو وجنون المقاصل. ولكن ما الذي يأخذ هذا الرجل نفسه إلى موسكو؟ ما الذي يأخذ فرنسا إلى حروب لا تبقي لها سوى حفنة من الضباط؟ ما الذي يأخذه إلى واترلو رافع الرأس، ويعيده شاحباً منحني العنق؟ تريدون أجمل وأعمق ما كتب في واترلو، التي يمر عليها مائتا عام هذه السنة؟ ارجو أن تقرأوا الكسندر دوما الإبن، الذي اضطهدته فرنسا بسبب شَعره الأجعد واصوله الأفريقية قبل أن تكتشف أنه سيد اسياد ادبائها. هكذا اضطهدت الروسيا الكسندر بوشكين واصوله الأفريقية، قبل أن تعينه امير شعرائها، قبل وبعد. نشأت على نظرة ساذجة ورومانسية إلى التاريخ. أحببت نابوليون مرة واحدة من خلال الحديث عنه بين ديغول ومالرو في "السنديانات التي نقطعها". عدا ذلك، في كل قراءتي للتاريخ، بصرف النظر عن مدى "علميتها"، لم يكن لي "بطل" بين المحتلين والغزاة والجناكزة وتيمورلنك. لم يكن لي ابطال بين الذين أقاموا سيبيريا للروس (من أيام القياصرة) أو "الثورة الثقافية" في الصين. كل المبررات التي اعطيت لستالين لم تقنعني بضرورة قتل 30 مليونا إلى 100 مليون من رفاقه ومواطنيه. وكل التمجيد الذي اعطي لماو، لا يبرر شيئاً من سوق 60 مليون صيني إلى الموت، سواء كان الخطيب ماكسيميليان روبسبيير أو فلاديمير لينين، فهم بشر مليئة افواههم بطعم الجثث. أنا ابطالي الكبار والتاريخيون بناة الأمم ومنقذوها من ركام ورماد المجانين: شارل ديغول. جواهر لال نهرو. غاندي. مانديلا. لنكولن. غورباتشيوف. تاتشر. بيار اليوت ترودو. كان أحد أعظم رجال هذه الكوكبة، السنغافوري الذي غاب أول من أمس. وإذا اردنا تطبيق قانون النسبية، فقد كان اعظمهم على الاطلاق. لم يكن خلفه الشعب الفرنسي، أو الألماني، أو البريطاني، أو 300 مليون هندي. جاء لي كوان يو من مستنقع غارق في مستنقع غارق في الملاريا والأميّة والخمول والموت المبكر والأجسام العليلة. يوم حارب الاستعمار كان ماركسياً. ولكن يوم انتقل إلى محاربة الجهل والأوبئة، أدرك أن لغة ماركس المطرزة سوف تخدر الناس في افيون آخر. هو، القادم من أوكسفورد ومن سجون بريطانيا، مثل نهرو، قرر أن يتعلم من المستعمر في البناء الداخلي. الثالث كان الحبيب بورقيبة. قال نهرو سوف نظل نستخدم لغة المستعمر إلى أن نتحرر. لكن الهند اكتشفت بعده أن التحرر الاقتصادي يتطلب الاستمرار في جعل الانكليزية لغة أولى، ذلك أن نحو 300 لغة أخرى لا تفيد متراً واحداً خارج حدود الولاية ومحطة القطار المحلي. فرض لي كوان يو على السنغافوريين تعلّم القليل من الانكليزية على الأقل، وفرض عليهم الكثير الكثير من النظافة، وعاقب العقاب الشديد كل من يرمي القمامة من الشرفات، أو يرمي العلكة على مقعد الحديقة العامة. وقد أذهلني مشهد ثلاثة من العمال يمسحون الرخام الأسود في مطار سنغابورة فيما هو يلمع ويبرق في الاساس. وكنت قد رأيت مشهداً مماثلاً في مونترو العام 1968 عندما وقفت على الشرفة أتأمل نظافة الطريق، فإذا بي بعد لحظات أرى سيارة البلدية تغسل وتنشف الزفت كما لو أنه في مصبغة ملكية خاصة. لا شك في أن لي كوان يو أخذ من السنغافوريين الحرية السياسية، وحق السفسطة والثرثرة، وتضييع الوقت والتحريض على الاساءة والحقد والكراهية، والنزول إلى التظاهرات الصاخبة والمملة والجوفاء، لكنه اعطاهم في المقابل اقتصادا مطلق الليبيرالية، ونهضة صناعية نادرة، وحوَّل بلدانهم إلى أهم مركز مالي في آسيا، من غير أن يتساهل لحظة واحدة في فرض "القيم الآسيوية" أو أن يسمح لدولته ولو بلمحة من الفساد القاتل والمعل، وجعلهم شعباً كفياً مكتفياً لا يمد يده إلى مساعدة، أو عنقة إلى جزمة. عندما انفصلت سنغافورة عن ماليزيا العام 1965 جاء لي كوان يو إلى القاهرة الناصرية يطلب مساعدتها على إقامة الأمن الداخلي. لكن المسؤولين يومها لم يلتفتوا إليه. فمن هو هذا القادم من مستنقع؟ فوَّتت القاهرة على نفسها الإفادة من إحدى أعظم التجارب غير السياسية في التاريخ. وكان أكثر من استفاد من الأمر في وقت لاحق، خلف التشيرمان ماو دنغ شياو بينغ، الذي تطلع إلى تجربة جاره الصيني في البلد الصغير، ولم يتردد لحظة في مخاطبته قائلاً: تعال علِّمنا. هكذا لم يكن يتردد جان كوكتو في مخاطبة اندريه جيد بكل تواضع: هات أسحرنا! في هذا المستنقع السابق تحوَّل المواطن من العيش في خمٍ واحد مع الدجاج، إلى أرقى مستويات المعيشة في العالم. وفي عز الصراع بين الاميركيين والسوفيات، كَرِهَ كلاهما هذا النموذج من الاستقلالية والتقدم. فالأميركيون رأوا فيه نقيضاً للديموقراطية، والسوفيات رأوا فيه نموذجاً للنجاح الرأسمالي، بعدما كان قد تدرب في الحزب الشيوعي على تعشّق الخِطَب والابتهال للرفيق فلاديمير. والحقيقة أنه ليست هناك تجربة مشابهة في القرن العشرين، الذي شهد استقلالات الدول الفقيرة في افريقيا وآسيا، والتي تدحرجت جميعاً نحو المزيد من الفقر والتقهقر ومظاهر العبودية الحديثة. وخلت افريقيا برمَّتها من رجل رؤيوي وجاد مثله وبلا فساد. وكذلك، آسيا التي هَوَت في الحروب الأهلية، أو النهم الطبقي القبيح، كما حدث في اندونيسيا. وأما العالم العربي الذي كان له تفسيره الآكثر فظاظة للماركسية واليسار، فقد اهمل التماثل مع أي تجربة بشرية في الكفاية والتقدم. ومن دبي، الغارقة في الرمال والقيظ والرطوبة الشبيهة برطوبة سنغافورة، قرر محمد بن راشد أن يُقيم نموذجاً مشابهاً. في غياب الثروات الطبيعية، قرر الاعتماد على الثروة البشرية وعلى الرؤى البعيدة. ولم يخطط شيئاً لغد، بل دائماً لما بعد غدٍ. وجعل الاقتصاد ليبيرالياً إلى ابعد الحدود، لكنه ابعد في الوقت نفسه السفسطة والثرثرة وتعليم الخواء. وليس في آسيا كلها، ايضاً وفقاً للنسبية، نموذج شبيه بدبي أو سنغافورة. الأولى ليست فقط صاحبة اكبر حركة طيران في العالم اليوم، بل هي تدير الموانئ في الولايات المتحدة. وإذ يعاني جوارها في العراق وفي ايران تحديات الفقر والبطالة، أو تعاني دولة في حجم سوريا الجفاف وتدنّي اسباب المعيشة، ويبدو مطار مدينة مثل بيروت شبه مغلق في وجه الناس والاقتصاد والمداخيل الكبرى وحركة النمو، تمضي دبي في سباقها مع نفسها، مرة تقيم مدينة شبيهة بالبندقية وغندولها، ومرة توسع ملاعب الغولف، ومرة تقيم مراكز للتزلج، ومرة تقيم أحد أكبر الأحواض الجافة في العالم. ونحن هنا، نبحث عن رئيس، وتتحول نشراتنا الاخبارية إلى مقامات حزن وبكاء ونواح، ويكبر عندنا حجم المطارات والمرافئ في معدل الهجرة القاتلة وحدها. في الصيف ننتظر الشتاء، وفي الشتاء نخاف ذوبان الثلج. حروب دائرية من حولنا، ودائرة ضمننا، ويأس هو الدائرة الأكبر من جميع الدوائر. كان لي كوان يو يقول إن التعدد البشري هو مستقبل سنغافورة. يحزننا أن التعدد لدينا هو هذا المصير. *نقلاً عن صحيفة "النهار"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه