2015-10-10 

الأهم من الانتخابات البرلمانية.. ما بعدها

زياد بهاء الدين

غير معقول أن تكون مصر هى الدولة الوحيدة فى العالم التى لا يوجد فيها برلمان بسبب عجزها عن إصدار قانون للانتخابات. سمعنا عن بلاد لا توجد فيها برلمانات بسبب الحروب الأهلية، أو الكوارث الطبيعية، أو لأن أنظمة الحكم فيها لا تعترف بالمجالس النيابية أصلا، وسمعنا أيضا عن انتخابات يتم تأجيلها مراعاة لمواعيد الحصاد، أو الامتحانات، أو الصيام، أو الأعياد الرسمية. ولكن أن يتأخر عقد الانتخابات ما يقرب من عام كامل لأن الدولة المصرية بكل وزاراتها وخبرائها ومستشاريها وأساتذة القانون بها غير قادرة على وضع قانون يتفق والدستور، فهذا شأن جديد ووضع مؤسف للغاية. عام كامل ونحن ندور فى دائرة مفرغة بين القوائم والفردى والدوائر والتحالفات والكشوف الطبية والدعاية الانتخابية. السبب الرئيسى أن الدولة اختارت منذ البداية نظاما انتخابيا متعارضا مع الدستور ومحل رفض كل القوى السياسية لأنه يدفع إلى تكوين برلمان مفكك وضعيف، كما أنه يأخذ بالقوائم المطلقة التى لا مثيل لها فى العالم لأنها تفرض تحالفات حزبية واهية وتمكن الدولة من التحكم فى النتيجة كما أنها تؤدى إلى توزيع للمقاعد بشكل لا يعبر عن طبيعة المجتمع. وحتى بعد صدور الحكم بعدم دستورية القانون، رفضت الدولة أن تستغل الفرصة لمراجعة هذا النظام الانتخابى مراجعة شاملة وقررت الاكتفاء بتعديل المواد التى ألغتها المحكمة الدستورية فقط وربما إدخال بعض التعديلات الشكلية الأخرى، بل وأحالت الموضوع إلى ذات اللجنة التشريعية المسئولة عن وصولنا إلى هذا الوضع المخزى. وحينما دعا رئيس مجلس الوزراء لحوار مع الأحزاب، فإذا بممثلى الدولة يعلنون أن التعديل سيكون فى أضيق الحدود وأنه سينتهى فى غضون أيام. وللأسف أن هذا الحوار، خاصة فى جولته الثانية، قد جاء دون المستوى وانتهى باشتباك بين بعض الحاضرين، الأمر الذى فتح الباب أمام الإدعاء العجيب بأن الأحزاب هى المسئولة عن تأجيل الانتخابات، كما لو كانت دعوتها إلى اجتماعين سببا كافيا لتحميلها بوزر تعطيل الحياة النيابية. ومع ذلك فما يبعث على القلق ليس مجرد التأخير فى انتخاب البرلمان، ولا أن يأتى مجلس الأمة القادم ضعيفا ومفككا، وإنما أن تكون عواقب هذا التأخير والتخبط التشريعى أكبر بكثير من ذلك، وهو أن يفقد الشعب حماسه واهتمامه وثقته فى الشأن السياسى بوجه عام وفى فكرة التمثيل النيابى التى هى أساس الدولة الديمقراطية الحديثة. طوال العام الماضى، وبينما الجدل مستمر حول الانتخابات والقانون والدوائر والقوائم، قامت الدولة والإعلام التابع لها بالترويج لثلاث رسائل بشكل مستمر: الرسالة الأولى أن مصر، وهى فى حالة البناء الاقتصادى والمواجهة مع الإرهاب، لا تتحمل ترف الديمقراطية والمشاركة الشعبية والحقوق والحريات، والأفضل أن نتجاوز هذه المرحلة دون احتجاج ولا معارضة. والرسالة الثانية أن مصر فى هذه اللحظة العصيبة لا تحتاج إلا شعبا وقائدا وكل ما عدا ذلك من أحزاب وجمعيات ونقابات وتكتلات فهى ليست إلا كيانات زائدة عن الحاجة ولا عمل لها سوى عرقلة جهود التنمية وخدمة أعداء الوطن. أما الرسالة الثالثة فهى أن البرلمان ضرورى لأنه أحد أركان النظام الدستورى كما أنه يستكمل خارطة الطريق المعلن عنها فى يوليو ٢٠١٣، ولكنه كلما تأخر كان ذلك فى الصالح العام لحين الانتهاء من التشريعات الاقتصادية والسياسية الكبرى وبعيدا عن الصخب والتعطيل وتدخل نواب المجلس المنتخبين فى كل صغيرة وكبيرة. هذه الرسائل لم تكن دائما ضمنية أو مستترة، بل عبر عنها بصراحة القريبون من الدولة والمتحدثون باسمها دون تردد أو خجل، بل رددها بعض الوزراء والمسئولين فى لحظات صراحة مذهلة. إرجاء تشكيل البرلمان وتهميش الأحزاب والتضييق على الأصوات المعارضة قد يسهل مهمة الحكم ويجعل الدولة تبدو أكثر كفاءة وسرعة مما هو الحال لو كان عليها التشاور مع الأحزاب، والجدل مع نواب الشعب، والإنصات لمختلف الرؤى. ولكن هذه مكاسب قصيرة المدى وغير مستمرة، لأن ما يجعل الدولة تنتصر فى معركتها مع الإرهاب وتنهض بالاقتصاد وتحقق الطفرة المنشودة هو قدرتها على تحقيق اصطفاف وطنى حقيقى وتماسك فى المجتمع وحشد للموارد فى مواجهة التحديات الداخلية والمخاطر الخارجية. وهذا الاصطفاف الوطنى لا يتحقق بأن يكون هناك رأى واحد سائد، ولا قائد بلا معارضة، ولا حكومة لا يحاسبها أحد. هذا لا يكون إلا وهم بأن هناك إجماعا فى الآراء واتفاق على كل شىء. المجتمع القوى هو الذى تتعدد فيه الرؤى، وتتبادل الأحزاب مواقع الحكم والمعارضة، ويعبر فيه الشباب عن آرائهم بحرية، وتفتح أجهزة الإعلام أبوابها وصفحاتها وقنواتها لمختلف الاتجاهات، ويقوم البرلمان بدوره التشريعى لكى يكون مشاركا فى اتخاذ القرارات، ويمارس دوره الرقابى على الحكومة لكى يساعدها ويحمى مصالح الناس، ويستعين الرئيس بخبرات البلد وكفاءاته حتى تكون قراراته صائبة، وتقبل حكومته النقد لكى يتحسن أداؤها. عندئذ فقط يكون المجتمع قويا ويكون الاصطفاف حقيقيا وتكون الدولة مدعومة بالشعب وليس بالأجهزة الأمنية والإعلامية فقط. فى نهاية الأمر، لابد أن قانونا للانتخابات سوف يصدر، وأن برلمانا سوف ينتخب، وأن خارطة الطريق سوف تستكمل بشكل أو بآخر. ولكن الأهم من ذلك، أيا كان شكل البرلمان القادم، أن تكون الأولوية للحكومة وللأحزاب وللإعلام الراغب لهذا البلد فى التقدم، هى استعادة ثقة الناس وإيمانهم بجدوى العمل السياسى والحزبى، وبأن التعدد والاختلاف قوة، وأن دولة الرأى الواحد لا تحقق تنمية ولا تقدما على المدى الطويل. *نقلاً عن "الشروق"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه