@hananalhamad73
بعد مضي كل تلك السنوات على رحيل من نحب، فإن من أبسط حقوقهم علينا أن نسطر بعض مواقفهم الجميلة والتي قال عنها أحفاد أحفادهم مواقف "زمن الطيبين"، فكيف إذا كانت تلك المواقف بين أطيب وأنقى رجال ونساء ذلك الزمان – من وجهة نظري على الأقل - لا تزال تضيء مواقفهم حيزا من ذاكرتي المكتظة وتضفي عليها جمالاً لا يُنسى.
في أحد الأيام ذهبت مع والدي لزيارة بيت جدي أحمد - رحمها الله جميعا - في شارع عسير، ذلك المنزل الذي تسكنه رطوبة التكييف الصحراوي ويقع الهاتف ذو القرص على رف عال بعيدا عن عبث الزائرين، فعند دخولنا للمنزل كان أول ما أبحث عنه هو الشاي الذي تصنعه زوجة جدي رحمها الله وأكون محظوظة إذا ما صادف أن ننضم إليهما على وجبة العشاء المميزة لنتشاركها على "طبلية" وضحكة جدي تملأ المكان وهو يشاكس زوجته التي تحمر وجنتاها من مشاكسته لها أمامنا، لكن في تلك الزيارة تحديدا لم نجد أيا من تلك الطقوس المتوقعة!
المنزل تملؤه راحة البخور والقهوة السعودية المهيلة وكأن وليمة أقيمت لديهم تلك الليلة، دخلت إلى المنزل لأجد زوجة جدي مبتسمة وسعيدة جدا وكذلك جدي الذي كانت قد أنهكته مضاعفات مرض السكري كان منتشياً ضاحكاً متناسياً أصابعه التي غزتها الغرغرينا، قالت زوجة جدي مخاطبة أبي:
" تخيل من الذي زارنا بعد صلاة العشاء؟"
لم يفلح أبي في معرفة الضيوف، ليرد عليه جدي بأن صاحب السمو الملكي الأمير بندر بن عبدالعزيز آل سعود رحمه الله وغفر له كان ضيفه ذلك المساء، فقد كان الأمير بندر في مجلسه المعتاد وإذا به يتأمل وجوه جلسائه وفجأة سأل عن شخص عزيز عليه كان لا ينفك عن زيارته كل أسبوع ويحضر مجلسه العامر، حيث كان يعمل جدي في أحد مزارعه في محافظة الخرج، وتوطدت بينهما وأسرتيهما قصة صداقة ووفاء جميلة، وعندما لم يجد الأمير "أبو فيصل" إجابة، طلب تجهيز السيارة وذهب إلى منزل جدي ليطمئن عليه وعلى صحته المتعبة ويعبر له عن اشتياقه الشديد، ردت تلك الزيارة الحياة في وجه جدي وزوجته، زيارة تبادل فيها الأوفياء ذكريات وأحداث لزمن اتسم بالبساطة والسعادة والوفاء.
رحلوا جميعهم ولم يتسن لي أن أسجل ما كانت ترويه جدتي وزوجة جدي من قصص وأحداث كانت تذكرها صاحبة السمو حرم الأمير بندر "أم فيصل" رحمهم الله عن ورع الأمير بندر وتدينه وكيف كانت حياته مع أسرته تقوم على الحب والاحترام والتدين المعتدل، ولعل من ألطف القصص عندما انتشر ما يسمى ب "الدش" وكيف اضطرت "أم فيصل" للتمهيد لزوجها لإدخاله إلى منزلهم نزولا عند رغبة بعض أبنائهم!
كنت استمتع بهذه القصص عن العلاقة الراقية التي جمعت بين الأمير الورع وجدي وأسرتيهما، كانت علاقة توجهها قيم التواضع والوفاء ولا شيء سواها، فالقصص والمواقف التي جمعت بينهما تخبرنا أن العلاقات السامية هي التي تدوم حتى بعد الموت، رحمهم الله جميعا وأدعو الله أن يجمعنا بهم في جنان النعيم على سرر متقابلين.
ختاما: قد مات قوم وما ماتت فضائلهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
وحشتوني!