2015-10-10 

رسالة إلى سعد الحريري

أحمد عدنان

رحم الله رفيق الحريري الذي رفض مغادرة لبنان بعد التمديد للرئيس إميل لحود، أغلب الدول الصديقة حذرته من تهديد أمني مؤكد، لكن رده كان عميقا وملهما وحاسما: 'الوطن ليس فندقا'. دولة الرئيس، اعتذر عن نشر رسالتي لكم في صحيفة دولية بدلا من لبنانية، والسبب إقامتكم خارج لبنان، وحسب آخر أخبار وسائل الإعلام، يفترض أنكم في مدينة جدة، لكنني أعتقد أن الصحف السعودية لن تحبذ نشر هذه الرسالة مراعاة لمشاعركم واحتراما لخصوصيتكم السياسية، ومن الوارد جدا أن تسبقوا يوم نشر المقالة بالسفر إلى ذلك المصيف الأوروبي أو تلك العاصمة الدولية، لذلك كانت صحيفة “العرب” اللندنية هي الخيار الأفضل، مع العلم بأنني أكتب من بيروت، الفاتنة التي شاخت فجأة، وأطفأت الوحشة شمس عينيها، وتعكرت روحا وجسدا بالحزن والحيرة. أعرف أنكم تتابعون أخبار لبنان عبر شاشة التلفاز أو شبكة الإنترنت، كما أن تقارير تيار المستقبل الذي ترأسونه لا تتوقف، والاتصالات الهاتفية مع الحلفاء والأصدقاء والأنداد والأنصار لا تنقطع، ولاشك بأن مكانتكم السياسية تتيح لكم معلومات لا تتوفر للعامة، سواء من مراكز صنع القرار في لبنان وفي خارجه، أو من أجهزة جمع المعلومات وتحليلها في الدول الصديقة. ورغم كل ذلك، أرجو من دولتكم، بعد أخذ الضمانات الأمنية التي تريدون، التكرم بزيارة بيروت لسويعات قليلة، هل تذكر يا دولة الرئيس مشاركتكم في ماراثون بيروت ومعايرة الصحف التابعة والحليفة للسيد حسن نصرالله، أمين عام ما يسمى بـ”حزب الله”، بعزلته المتعالية عن البلاد والعباد وغيابه عن الماراثون لذرائع أمنية، يومها قلنا إن هذا هو الفرق بين مشروعيْن، مشروع الحياة الممثل بدولتكم، ومشروع الهلاك والميليشيا الممثل بنيافته، واليوم يا دولة الرئيس يبدو أنكم التحقتم بحسن نصرالله، لكنه هذه المرة تفوق عليكم، فهو بين أهله وناسه وإن كان تحت الأرض، وأنتم تركتم البلد وأهله مفضلين الدعة في جدة أو باريس أو غيرهما. دولة الرئيس، لم تعد الذريعة الأمنية مقنعة، فقد أتيتم أكثر من مرة وغادرتم كالسواح، كما أن بيت الوسط، ودارة الرئيس الشهيد رفيق الحريري في قريطم مجهزة بكل أسباب الراحة والفخامة التي تليق بكم لإقامة طويلة كما فعلتم سابقا، وأعتقد ان الظرف الأمني اليوم أفضل حالا من أيام تواجدكم البيروتي (2005 – 2011)، وأعتقد ان بلادكم وشعبكم أكثر حاجة إليكم اليوم من ذلك الوقت. هل تتذكرون يا دولة الرئيس يوم تقدمتم اللبنانيين في جنازة النائب الشهيد وليد عيدو؟ هل تذكرون الاتصال الذي جاءكم من سياسي عربي تفاجأ من تقدمكم للمشيعين في ذلك الظرف الأمني الخطير؟ لقد كنت يومها منفردا بذلك السياسي في مجلسه الخاص، وحين أغلق الهاتف قال نصا “كم أكبرت الشيخ سعد واحترمته، لقد قال لي إنه كان ممن يهابون الموت، لكن المسؤولية أخذته إلى موقع آخر، ففي ساعة الخطر لابد أن يتقدم شعبه قبل ساعة الرخاء”، ونص هذا السياسي العربي مستوحى حرفيا من كلامكم الهاتفي، وهو كلام دقيق وعميق، فالزعيم هو من يدافع عن الناس لا من يدافع عنه الناس، هو من يخدم الناس لا من يخدمه الناس. كيف تلقيتم خبر استشهاد العميد وسام الحسن والوزير محمد شطح يا دولة الرئيس؟ ما رأيكم أن نوجه النصح للرئيس فؤاد السنيورة والدكتور سمير جعجع بمغادرة لبنان بسبب الظروف الأمنية؟ لا يا دولة الرئيس، لا أريد ترديد كلام الآخرين الذين يرون أن أسباب غيابكم اقتصادية، فوسائل الإعلام الاقتصادي ما زالت تصنفكم ضمن أثرياء الشرق الأوسط على الأقل، كما أنني مؤمن تماما بأن زعامة رفيق الحريري ثم سعد الحريري قائمة على العروبة والاعتدال ومشروع الدولة والتنمية والإعمار والتعليم والإصلاح الاقتصادي، وكانت الوفرة المالية عاملا مساعدا لا أساسا أو رشوة. لست بحاجة إلى تذكيركم بأن الطائفة السنية في لبنان بحاجة إلى ترتيب أوراق في ظل مواجهة الاستهداف الأسدي – الإيراني والإرهاب الداعشي – السلفي، وفي ظل هذه التحديات لبنان كله مهدد بمشاريع تفتيت أو ابتلاع أو مؤتمر تأسيسي جديد أو حرب أهلية يقودها محور الممانعة وجرذانه، ومن مظاهر ذلك الفراغ الرئاسي والتعطيل الحكومي، فبالله عليكم إن لم تكونوا اليوم بين أهلكم وفوق أرضكم فمتى تكونون؟ إن غيابكم يسهل استهداف السنة والتآمر على لبنان، ومع مرور الوقت ستجد نفسك مجبرا على اعتزال الحياة السياسية لفقدان التأثير، أو مكرها على العودة الفورية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد فوات الأوان أو قبل فواته بقليل. ببساطة يا دولة الرئيس، إن الجمهور الذي أشعركم مرارا بأنه بجواركم ومعكم وخلفكم من حقه أن يشعر مجددا ولو لمرة واحدة بأنكم معه وبجواره وأمامه. رحم الله رفيق الحريري الذي رفض مغادرة لبنان بعد التمديد للرئيس إميل لحود، أغلب الدول الصديقة حذرته من تهديد أمني مؤكد، لكن رده كان عميقا وملهما وواضحا وحاسما: “الوطن ليس فندقا”. أعتذر عن إزعاجكم مرة أخرى بسبب طول الرسالة وتشعباتها، فالموضوع أبسط من ذلك، إنني أطلب منكم فقط زيارة بيروت لسويعات معدودة، تتجولون خلالها في شوارع المدينة بسيارتكم المصفحة والفارهة، وأتمنى من سائقكم الموقر ترك نوافذ السيارة مفتوحة، فتشاهد عيناكم ويستنشق أنفكم جبال النفايات التي تتكوم في المدينة، مشوهة جمالها وملوثة عبقها ومعطلة طرقها وخانقة أهلها. دولة الرئيس، إنني أرجو منكم جديا تصفح جواز سفركم، حيث إن كل جواز سفر يحمل اسم صاحبه، وفي خانة اسمكم يفترض أن يكون مكتوبا “سعد الدين رفيق بهاء الدين الحريري”، هل تذكر يا دولة الرئيس والدكم الرئيس الشهيد “رفيق الحريري؟”. إنني أحرص دائما على افتراض السيناريو الأسوأ، لذلك سأكمل كتابة الرسالة تحت فرضية نسيانكم لوالدكم العظيم زعيم السنة وباني لبنان الطائف. رفيق بهاء الدين الحريري هو الرجل الذي حقق معجزة الإعمار في دولة عصفت بها حرب أهلية طاحنة خلفت وراءها 150 ألف قتيل و40 ألف مشرد ومهجر و17 ألف مفقود، لم يكن رفيق الحريري زعيم ميليشيا، بل رجل دولة حتى قبل تولي رئاسة الحكومة، لذلك واجه جيوش الميليشيا بجيوش المتعلمين مبتعثا 30 ألف لبناني من كل الطوائف، مما يشير إلى وطنيته واعتداله أيضا، لكن إنجازه الأجمل والأعظم هو مدينة بيروت نفسها التي تسلمها جثة هامدة، وسلمها عروسا للعالم العربي وحوض المتوسط والشرق الأوسط. أتمنى عليكم دولة الرئيس مطالعة عدد صحيفة “الشرق الأوسط” بتاريخ 15 فبراير 2005، يومها رسم أمجد رسمي لوحة جسدت معنى رفيق الحريري وفلسفته وقيمته، رسم أمجد مشهد انفجار السان جورج الذي أودى بحياة والدكم، وأمام حفرة الانفجار وقف محقق يتساءل “من قتل رفيق الحريري؟”، وبجوار المحقق وقفت روح والدكم الفذ أمام حفرة الانفجار الذي قتله متسائلة “من سيعيد إعمار المنطقة؟”. بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، لن تنسى بيروت ولن ينسى لبنان وقفة رفيق الحريري الذي أطلق مبادرة على حسابه الشخصي لتنظيف بيروت شارعا شارعا وحيا حيا، وزاروبا زاروبا وحجرا حجرا. استمرت الحرب ولم ييأس رفيق الحريري، فنظافة المدينة فوق كل اعتبار، وثابر حتى نظف لبنان كله من مخلفات الحرب، وفي ذلك دلالاته الرمزية والبليغة. دولة الرئيس، هل تذكر حين واجهتم بعض متطرفي السنة في منزلكم حين طالبوك بالسلاح، يومها رددت عليهم “سلاحنا هو القلم، وهل كنتم ستجرؤون على طلب السلاح من رفيق الحريري؟” يومها أخرستهم وانتصرت عليهم باسم رفيق الحريري ومنطقه. لذلك أختتم رسالتي باقتراح ثان، فربما لا تسعفكم مشاغلكم واهتماماتكم بزيارة بيروت، ليتكم تطرحون على أنفسكم سؤالا واحدا فقط: هل والدكم الرئيس الشهيد رفيق الحريري راض عنكم، كوريث سياسي وزعيم وطني ورجل دولة ونائب بيروتي، وأنتم تتركون بيروت، المدينة التي نظفها كأم تحمم صبيها، وبناها كفنان يرسم لوحته الخالدة، تتحول من عروس رفيق الحريري، إلى برميل نفايات نتن وبشع؟ دولة الرئيس، كفى عقوقا لرفيق الحريري.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه