2015-10-10 

الحرب في عقر دارنا

عبده وازن

ليس من مواطن عربي يستطيع أن يتجاهل الحرب الدائرة اليوم في بلاده وينأى بنفسه عنها. هذه ليست حرب الآخرين علينا، مهما بلغت أرقام الأغراب الذين يشاركون فيها. الحرب في دارنا ومن حولنا، في الداخل وعلى الأطراف. إنها حربنا، بعضنا ضد بعض، أياً نكن نحن وأياً يكن الأعداء. جميعنا معنيّون بها، جميعنا ضحاياها، جميعنا الخاسرون فيها، ولا انتصار هنا أصلاً ولا منتصرين. إنها النكبة الجديدة، النكبة والنكسة معاً، النكبة المضاعفة التي تخطت تخوم مأساة فلسطين: ليس الآن شعب واحد يُهجّر ويُطرد من أرضه، بل شعوب عربية تُنفى داخل أراضيها وخارجها، تُحاصر وتُذل وتُقصف وتُسحق وتُحرق وتُساق الى الذبح. صارت مأساة فلسطين مشهداً درامياً صغيراً أمام التراجيديا العربية المفتوحة على مصاريعها كلّها، والمشرّعة على المجهول ممزوجاً بالخوف واليأس والقنوط والأسى. سورية والعراق وليبيا واليمن، هي العالم العربي كلّه. هذه بلدان لا تنفصل عن الخريطة العربية، لا جغرافياً ولا تاريخياً ولا وطنياً ولا وجودياً ووجدانياً. إنها العالم العربي نفسه ومآسيها هي مأساة هذا العالم. لم يشعر العرب بما يشعرون به الآن من قلق واضطراب وعدم وعبث. كل كلام يناقض هذا الشعور العام، كاذب وغير حقيقي. الجحيم واحدة ولا أحد يقدر على إنقاذ نفسه من نيرانها. اللعنة لم تحلّ على البلدان التي تحترق وحدها بل على البلدان العربية كلها. لا يحتل تنظيم «داعش» أراضيَ ومناطق عربية بل هو يهدد العالم العربي بأجمعه. وكذلك «النصرة» وسائر الفصائل والجيوش الخارجة للتو من ظلام التاريخ. النظام الديكتاتوري السوري لا يلقي براميل البارود والحقد والكراهية على مدن وقرى سورية، بل على الأراضي العربية جميعاً. الحوثيون ومن لفّ لفّهم من فرس، لا يردمون تاريخ اليمن فقط بل هم يدمرون ديار العرب. أما آثار أصابع الغرب، الأميركي والروسي والأوروبي، فتنتشر في كل مكان وزاوية. ليس من دولة غربية بريئة مما يحصل من مجازر وإبادات في عالمنا. الغرب يتحمل الكثير من أوزار هذه التراجيديا المستشرية، التراجيديا التي جعلته يوقن أخيراً أنّ لا بد له من أن يدفع هو أيضاً قسطاً من ثمنها الغالي. لكن مهما أقلق ضميرَ الغرب أو ما تبقى من هذا الضمير، مشهدُ اللاجئين الذين ابتلع البحر منهم ما ابتلع، فهو لم يستيقظ إلا عندما شعر بأن عاتقه بات مثقلاً: نصف مليون لاجئ يطرقون أبوابه ولم يعد في وسعه إلا أن يفتح الباب أمامهم ولو ربع فتحة. ليدفع الغرب ما يمكن أن يُجبَر على دفعه. لعبة التواطؤ التي ما برح يظن أنها ستؤتي ثمارها لم تطابق نتيجتها تصوراته، فانقلبت عليه ولو قليلاً، وجعلته يواجه ما لم يشتهِ مواجهته يوماً منذ الحربين العالميتين. هذا السيل من الضحايا الأحياء سيكون بمثابة ضريبة عليه أن يدفعها ثمناً غير باهظ طبعاً، لعنجهيّته وشوفينيّته وتعنّته ولا مبالاته ولا إنسانيته... يا لهذه اللعبة الدموية الخطرة التي تديرها أيد ملوّثة بالدم والرماد. هل مسموح أن يقف الغرب موقف «المتفرج» حيال ما يحصل من مآسٍ في العالم العربي؟ وإن افترضنا أن هذا الغرب متواطئ في ما يحدث، فهل يمكنه أن يبقى محايداً ولا مبالياً إزاء هدم بلدان بكاملها وتهجير أهلها وقتلهم؟ أليست سوريا بلاداً تُدمر تدميراً شاملاً؟ كيف يقدر الغرب أن يصمت وكأن ما يحصل إنما في كوكب آخر؟ الغرب الذي تعلّمنا منه الكثير، الأكثر مما نظن، لا سيما في ميدان حقوق الإنسان والحرية والمساواة، هو نفسه الغرب الذي يتعالى على الشعوب ولا يلتفت إليها إلا بغية الإفادة منها واستغلالها خدمة لمصالحه المعلنة وغير المعلنة. بلغت صفقات الأسلحة التي أبرمت خلال العام 2014 بين دول غربية والعالم العربي، أرقاماً لم تبلغها سابقاً. هذا التقرير أعلنته مصادر غربية بدت كأنها متفاجئة بظاهرة رواج تجارة الأسلحة في الشرق الأوسط والعالم العربي. لا يصدّرالغرب إلينا ثقافته واختراعاته العلمية والتكنولوجية الباهرة إلا مرفقة بالسلاح، لنتقاتل فرقاً وطوائف وقبائل وجماعات... يخشى الغرب أن تفوت صلاحية الأسلحة الرهيبة الراقدة في المستودعات، فيعمل على إرسالها الى بلدان مثل بلداننا. أسلحة تحتاج دوماً الى شعوب تتقاتل وتتحارب كي تخرج من ظلمة المستودعات الى شمس المعارك. وقد يخيّل إلينا أن الحروب إنما تُصنع كي يتم التخلّص من هذه الأسلحة التي تتراكم في المصانع، فتحلّ محلّها أسلحة أحدث وأفتك وأمضى... ماذا جاءت تفعل روسيا في سورية بترسانتها الرهيبة؟ حتماً ليس شفقةً على الضحايا والخراب ولا على الأطفال الذين يقتلون تحت البراميل أو يلفظهم البحر على الشواطئ. مهما حاولنا تناسي الحرب والنأي عنها، نجدها تحاصرنا في الداخل كما من الخارج. إنها الحرب في صميم عالمنا العربي، في عقر دارنا. ولا مفرّ من الألم والأسى واليأس الذي لم يبقَ لدينا ما يقاومه. إنه عالمنا العربي الذي يدمّر. إنها حياتنا التي تتبعثر وتتشتت. نقلا عن الحياة اللندنية

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه