فوق جسر في القاهرة الراقية

نادين البدير

سرنا فوق جسر امتلأ بالزحام حد الخناق، كانت عيون قائدي السيارات متجهة صوب نهاية الجسر على امل الوصول بأقصى سرعة. لم يكن احد منهم يعير الآخر او ما يحدث في الشارع اي انتباه فالجميع متفق على هدف واحد. الخروج من هذه الزحمة المريعة ثم ان الأعين قد اعتادت مشهد الجسر لدرجة حفظه غيبا، طوله اللافت جدا ومساحته الواسعة، ومناظر المدينة التي يطل عليها، والشوارع والاحياء التي يقطعها، والسماء التي يقترب منها ليلا، كل ذلك لم يعد ملفتا لأي من الركاب في تلك اللحظة.

 

لقد ذاب شعور الانبهار بالجسر العظيم مع الايام مثلما يذوب انبهارنا بالاشياء كلما تقدمنا في العمر، فتغدو الشوارع متشابهة والبلدان متماثلة ونبرات اصوات الآدميين شبه بعضها، وحتى الوجوه تصبح الوجوه عادية لا يجذبك الجمال ولا تنفر من البشاعة ويمتلئ رأسك بطموح لذيذ هو البحث عن بقعة مبهرة في هذا العالم.

 

هكذا كان الجسر وقتها روتينيا حتى وصلنا لربعه الاول، بدأ يتجسد امامنا رجلا كبيرا في السن اصله الريفي يبدو واضحا من ملابسه ومشيته ونظراته، كان يسير يمنة ويسرة على طرف الجسر ضارباً كفاً بكف، وهو يلطم او يتحسر على خسارته الكبيرة التي لن يعوضها عمل شهور قادمة، بمجرد أن تنظر إليه سيرشدك التيه في عينيه إلى مشهد فظيع، عربته ومصدر رزقه وهي محطمة امامه بأواني الفخار المهشمة، كان يقتات منها قبل دقائق معدودات، تحولت لفتات مهشم تحت قدميه، «صدمته سيارة مسرعة» هذا التفسير الوحيد.

 

نظراته لم تكن تستدعي المال بل العاطفة، رأيته يبحث في وجوه راكبي السيارات عن أي مخلوق يشاركه الحزن وحتى الشفقة.

 

شردت في المسكين الذي اضاع رأسماله في ثوان... في تقاسيم وجهه المنكوب، في يديه اللتين تحاولان لململة المكسور وازاحة العربة التي ازعجت اصحاب المركبات عن الطريق الذي يسلكونه يوميا برتابة وبلا احداث.

 

اما من معي في السيارة فأخرج وبسرعة البرق مبلغا ماليا من محفظته واشار لي بفتح النافذة واعطاء المال للرجل البسيط الواقف على يمين السيارة. تباطأت سيارتنا فبدأت الزمامير تعلن تذمرها بكل قلة ذوق توقفنا للحظات ومددت له يدي والسعادة تغمرني بهذه المشاركة المجتمعية، اندهش وابتسم واطلق وابلاً من دعوات المباركة، الابواق التي لا تستحي لم تتوقف رغم المشهد المؤثر انقاذا لرجل خسر كل شيء. وبلحظة واحدة كسب اكثر من ثمن البضاعة بالعربة التي تحملها.

 

أدمعني الموقف، وقلت لمن معي: كان الرجل ينظر لنا ولسيارتنا كأننا أيقونة، بدأت أتخيله لدى عودته لقريته أو بلدته وهو يروي لأهله وأصحابه ما حدث له في المدينة الضخمة التي يغريك مظهرها وتساورك الظنون بأنك، لهول حجمها وعظمة تاريخها وعشرات الملايين التي تقطنها، ضائع فيها لا محالة، لكن كل زاوية ستقول لك العكس وكل شخص فيها سيثبت فظاعة ظنك.

 

بدأنا نتناقش حول دوران العطاء في هذا الكون، والقاعدة التي تسير عليها مسألة تداول الأموال. حتى في الديانات الاخرى حتى في البوذية والكونفوشية والتاوية عليك ان تمنح لتحصل على المقابل.

 

لكنه اختلف معي بقوله المتواضع: كان هذا الرجل هو الثابت وانا كنت المتغير.

 

ان كنت تحسبها بالثبات والتغير فبرأيي انتما الاثنان كنتما ثابتين هو خسر عربته في وقت لم يكن مستعدا له ولا عارفا به فمنحه الكون تعويضا اكبر وانت خسرت اموالا لم تكن مستعدا لخسارتها، وبالتالي يخبئ لك الكون مفاجأة بديلة وقد تكون انت المقصود بالامر، وقد يكون الرجل هو الأيقونة متجسدة بصورة بائع جوال مسكين وقف في تلك اللحظة من اجل ان تعطيه فتصبح عطاءات الكون لك عادلة ولها مبرراتها.

 

لماذا تحطمت العربة في اللحظة نفسها التي مررنا بها وكم سيارة توقفت لتشاركه مصيبته؟ ولا سيارة.

 

كم بوقٍ اعترض على وقفتنا التي عطلت الحركة في الجسر الروتيني المزدحم؟ كل من خلفنا بالرغم من التفاتهم جميعا نحونا وهم يمرون بنا ويتجاوزوننا.

 

من يرتب كل هذه الامور.

 

هذه اخلاق مصرية رفيعة رافقتها فوق جسر بالقاهرة الفاخرة، التي كثيرا ما ابهرتني في صباي، وتبقى الأم العربية الوحيدة التي اركن اليها لتعيد انبهاري بالاشياء والانسان والازمان.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه