2016-01-19 

سوق تبادل الجوع والموت في البورصة الفارسية

حامد الكيلاني

العرب - شكسبير في جملته “أكون أو لا أكون” من مسرحية هاملت، أو ديكارت في مقولته “أنا أفكر إذن أنا موجود” وغيرهم من كتاب وشعراء ومفكرين وفنانين، اختصروا ذواتهم أو حياتهم أو مجدهم وخلودهم بمفردات موجزة لا أبالغ إذا قلت إنها كانت حربهم الخاصة التي كان يجب أن يخوضوها وينتصروا في نهايتها لمصيرهم.

 

ولعل كافكا أكثر أثرا في ما أريد أن أبني عليه، عندما قال “أنا خائف إذن أنا موجود” لأنه في خوفه يَعُدُ العدة لمقاومة ما يمكن أن يهدد وجوده، ويزيد من طاقة تفكيره لإنتاج الأساليب، وصولاً إلى ذروة التركيز للتفكير الصحيح وبلوغ الهدف في حماية الفرد أو المجموعة أيضاًمن تاريخ العراق، أمثلة ممتدة الأزمنة لمواجهات عنف واجتياحات متكررة لموجات همجية، أكثرها فداحة بحجم الخسائر في البشر أو التدمير، هي تلك التي رافقت قلة التحسب للعدو وضعف كيان الدولة وعدم الشعور بوحدة المصير المشترك بين العرب.

 

الحكاية ذاتها، تتداعى حدود شرق العراق ويتدفق الشر بعدها إلى سوريا وهكذا، مغولاً أو فُرساً أو أقواما أخرى، لكن ما ينطبق على الماضي هل بالإمكان أن يجري تطبيقه على الحاضر مع كل ما جادت به البشرية في القرن العشرين، بعد تجارب حربين عالميتين وحروب إقليمية وما تمخض عنها من اتفاقات وعلاقات وإنشاء منظومات أممية متعددة الاهتمامات للحفاظ على السلم العالمي، واستقرار مفاهيم التعايش والتطور الحضاري والتكنولوجي، وضمان حقوق الإنسان وعدم الحط من كرامته وكبريائه وحقه في العيش، وأهمها توفير أمنه الغذائي وإبعاد جائحة الجوع عن الشعوب. ما يخطر ببالي مباشرة، عادات أهلنا في مدينة الموصل، من تأمين المواد الأساسية وتخزينها في أماكن خاصة وجهد الأسر في الإعداد والاعتماد على نفسها في توفير حاجة الأفراد لفصل أو أكثر، لاستمرار الحياة في حالات القحط الشديد وقلة كميات المطر في مواسم الزراعة.

 

الحقيقة أن مدينة الموصل تعرضت أكثر من مرة للحصار من قبل الأعداء، وشاهدها البطولي مقاومتها لحصار نادر شاه في منتصف القرن الثامن عشر بعد سلسلة مآس في المدن العراقية الأخرى، وعلى الرغم من جيشٍ بلغَ تعداده 300 ألف مقاتل مع أعداد كبيرة من المدافع لكنهم عجزوا عن اقتحام المدينة لبسالة الأبناء وبطولاتهم الاستثنائية، وأيضاً لتكديس مستلزمات العيش من محاصيل زراعية وكذلك المواشي وخشب التدفئة.

 

الصراع كان حينها لذات الأسباب المذهبية والطائفية، ومع تعجيل الانتقال إلى حاضرنا، ما كان لنا أن نصدق ما يجري في بلدة مضايا السورية لولا حقائق الأرض ورصد الهواتف النقالة والناشطين الذين دونوا واقع حصار أكثر من 40 ألف إنسان أغلبهم من مهجري مدينة الزبداني المتاخمة للحدود اللبنانية والمدمرة بالكامل، تم زج الناس في البلدة وأغلقت منافذها الرئيسية وطوقت جهاتها الجبلية بالألغام ولمدة 7 أشهر من قوات النظام الحاكم ومن الميليشيات الإيرانية التي ارتهنت الدولة اللبنانية لمشروع ولاية الفقيه.

 

المحاصرون، عاداتهم في التموين والإعداد تشبه إلى حد كبير عادات أهلهم العرب في الموصل، لأنهم يستعدون بجهود ربات البيوت لفصل الشتاء وأيام الثلج، لكنهم لم يتحسبوا لحصار خانق من حاكم يفترض به أن يحميهم ويدافع ويمنع عنهم تغول التطرف ونيات الميليشيات الطائفية التي كانت عوائلهم في ضيافة أهل الزبداني والبلدات التابعة لها ومنها مضايا أيام حرب 2006 مع العدو الصهيوني.

 

على حدود العراق من جهة الشرق، إيران ومشروعها القومي الفارسي يتمدد بشعاراته الطائفية في البلدات التابعة لمحافظة ديالى وضحيتها الكبرى المقدادية وما يجري فيها من إبادات وتدمير وتهجير، لتأمين وضمان الشريط الحدودي داخل عمق العراق من الجنوب إلى إقليم كردستان لبسط سيطرة الميليشيات الإيرانية ومشروعها الطائفي الذي تجهر به ليل نهار، وفي الجهة المقابلة عبر امتداد الأرض العراقية السورية، أي الحدود الغربية المحاذية للبنان، حيث تجري السيطرة على الشريط الحدودي بذات النهج والأهداف السياسية والطائفية.

 

المشروع الفارسي لولي الفقيه يطبق بفكيه على حدود العراق الشرقية وحدود سوريا الغربية المتاخمة للبنان، وما حدث من اتفاق في منطقة الزبداني بين إيران وجهات من المعارضة السورية في تركيا، لا يمكن تحجيم أهدافه في النواحي الإنسانية لصراع الحصار المتبادل بطابعه الطائفي بين بلدتي كفريا والفوعة من جهة، والزبداني وبلداتها من جهة أخرىإنه اتفاق مصغر وبالون اختبار لمشروع التقسيم الطائفي القادم بقوة من خلال مساعي طهران ونظامها بإذكاء الحروب العبثية وتدمير العرب وجرهم إلى خندق طائفي مقابل.

 

العرب بشبه إجماعهم على مجابهة التحديات الكبرى وبكل الوسائل وبشجاعة واعتمادهم على عمق أمتهم العربية والإسلامية وتحديهم للإرهاب بوجهيْ عملة التطرف المذهبيتين، إنما ينفتحون على حلم وحدتهم بواقعية تعادل خوفهم على مستقبل أجيالهم كأمة، وعلى مصير شعوبهم التي اكتشفت بالتجربة فادحة الثمن، أن المأساة توحدهم وأن المخاطر والتحديات جوهرها فُرْقَتهم والتفرد بهم وعزلهم وتطويقهم باليأس والعجز، ومحاربتهم حتى بسلاح التجويع حتى الموت.

 

ولي الفقيه الفارسي يريد كل شيء، العرب، أمتهم، دينهم، تاريخهم، حياتهم، كعبتهم، بغدادهم، ألا يكفي ذلك أن نكون أو لا نكون، أو نفكر إذن نحن موجودون، أو نخاف على مستقبلنا بما يكفي لنتوحد وننتفض على صبرنا وحلمنا تجاه من لا يراعي حرمة لجار أو إنسانية أو دين أو تعايش تمليه القوانين السماوية والوضعيةإيران كنظام سياسي ودور حمامة السلام والأفلام العاطفية مع روسيا وأميركا وغزل المصالح الأوروبية وما يأتي من رفع جزئي للعقوبات وإطلاق سراح ما يقارب من 50 مليارا من أرصدتها المجمدة، يجب ألا يكون على حساب العرب أو زيادة دعم أوجه الإنفاق على الفتن الطائفية في منطقتنا.

 

أستنجد بما آلت إليه مشاعر المهمشين في المدن العربية ومنها الموصل وديالى والمقدادية ومضايا والزبداني وكفريا والمعضمية وتعز، بل مواطني دول كالعراق وسوريا ولبنان واليمن ودول أخرى تحت يد الإرهاب وملفات المشروع الطائفي الفارسي، السؤال هو هل يمكن العيش أو الحياة مع من لا يمكن الاتفاق معه؟

 

محاولات بعض الساسة والقادة اللعب على الأديان والطوائف وارتداء زي رجال الدين وتناوب الأدوار والحماسة في حماية الشريعة مرة، وحماية القوانين مرة أخرى، أو دفع الناس لمزيد من الطقوس يقابلها في الحقيقة غياب أبسط الحقوق الإنسانية حتى البدائية منها، وهي حق الإنسان في العمل والحصول على الطعام.

 

ظاهرة انعدام تأثيرات التقدم الحضاري وعدم تجاوز سقطات الوعي الإنساني كما في حصار مدينة الموصل قديماً، زمن نادر شاه الفارسي وهزيمته المنكرة وفشله في اختراق صمود قلعة الموصل (باشطابية) التي تصلح أن تكون نموذجاً بطولياً لردع ودحر كل مدارس الإرهاب وأخطرها نظام ولي الفقيه الفارسي ومشتقاته الإرهابية من داعش وغيرها، إنه نظام نادر في كراهيته للعرب والحياة ولا يعترف أبداً بمقولة شاعر مثل اللورد بايرون “أنا أحب إذن أنا موجود” لكن اقتراب موعد مباحثات جنيف، سيوسع الأحداث على طاولة النزاعات وحصار المدن ويعيد مفردة “الإنسانية” للاستخدام السياسي، ويفتح بابا واسعا لنفاق المصالح الإقليمية والدولية على حساب الأبرياء.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه