2016-03-20 

نوبل للأمهات الثكالى

هيفاء بيطار

العرب-  قد لا تكون مجرد صدفة أن بداية ثورات الربيع العربي قريبة لحد الالتصاق بعيد الأم العربية والسورية خاصة، ولا يمكن مهما كابرنا وحاولنا تجميل الألم وإعلاء شأنه إلا أن نتحطم ألما في عيد الأم الذي يبدو متماهيا مع عيد الشهداء، لأن العيدين -عيد الأم وعيد الشهداء- أشبه بوجهين لعملة واحدة هي الألم فوق تحمل البشر، وهو على الأدق عيد الموت، لأن تغيرا طفيفا سيتم في تغيير الأدوار، فبدل أن يقدم الشاب وردة حمراء متفتحة كقلبه لأمّه الحبيبة في عيدها المتزامن مع بداية الربيع، ستقوم الأم بوضع وردة حمراء متورّمة من الألم كقلبها على ضريح ابنها.

 

وسيتم الاحتفال بعيد الأم في المقابر، وسط روائح الريحان والزهور والهواء العابق بأنفاس الأحبّة الأشبه بحريق والمُندى بدموع الأمهات الثكالى اللاتي دون أن يُخططن سابقا خرجن صباح الـ21 من مارس من بيوتهن أشبه بمسيرات أو مظاهرات -لا فرق ــ متوجهات إلى المقابر التي تضم بقايا ضريح من أبنائهن وفي أحسن الأحوال الضريح كاملا.

 

وستناجي كل أمّ ابنها مناجاتها الخاصة الأجمل من كل صلوات العالم وستتحد أصوات الأمهات الثكالى في ترنيمة الحزن الأبدية على أولادهن الذين لم يعد يعنيهن كيف ماتوا ومع أيّ فصيل قاتلوا؟ وهل آمنوا حقا بالقضية التي حشوا أدمغتهم للإيمان بها. ستصل ترنيمة الأمهات الثكالى إلى الله في عرشه وسيبكي ألما على مصير الأم والشهيد والمذبوح والغريق، والمخطوف والذي لا يعرف أحد عنه شيئا إذ تبخر كدخان.

سيكون الاحتفال بعيد الأم هذا العام في المقابر الشاسعة التي ارتصت تربتها بأجساد شبان ماتوا غدرا، لم يطيقوا الموت ولم يؤمنوا بقضية يدفعون حياتهم ثمنا لها، فهم يتوقون للحياة، للحب، للعيش، للأطفال والعمل والفرح.

 

ستتحول المقابر إلى ما يشبه حقولا من شقائق النعمان بسبب الورود الحمراء التي حرصت الأمهات الثكالى على إحضارها معهن في الصباح الباكر من عيد الأم، وستبدو الأمهات بوضعية واحدة -كأنهن اتفقن عليها- سيكنّ هياكل مقوّسة من الألم، راكعات قرب القبور يذرفن الدمع وبعضهن جفّ دمعهن، وقد تواسيهن الذاكرة بصور أولادهن الشبان الذين قتلهم شياطين العالم وسيتذكرون طفولة أبنائهن، لكن الفرح قُصف في ذروته كما تلوي عنق وردة متفجرة بالشذى والنضارة، ولن يعود الألم محتملا ولا أن تناجي كل أم ابنها بمحتمل، ستتماسك الأيدي النحيلة الرقيقة للأمهات الثكالى وستحكي كل منهن لصديقتها في الفاجعة قصتها وقصة جرحها، وبعضهن دفن أكثر من شاب، ستقوم أمّ كالمجنونة تمزّق قميصها وتنتزع خصلات من شعرها وهي تئن بصوت جففه الصراخ: مات ثلاثة من أبنائي، ماتوا في سبيل وطن يتفنّن في قتلهم، وستحاول أخرى مواساتها بأن ابنها مات تحت التعذيب في أقبية النظام بينما الآخر خطفته جبهة النصرة وقطعت رأسه، وهي تريد أن تعرف إن كان الإنسان يوم القيامة يلتحم جسده المقطع أشلاء بعضه ببعض.

 

وستتنافس الأمهات الثكالى في سرد مآسيهن متمنيات لو كان المشهد كله مجرد كابوس وسيكتشفن أيّ شبه كبير بين كلمة -أم وكلمة ألم- بمجرد سقوط حرف اللام تصير الأم ألما مُتخمّرا كأنها لم تأت إلى الحياة إلا لتنجب أطفالا ترضعهم وتنتظر عودتهم من المدرسة ويتراقص قلبها فرحا وهي تتأمل علامات البلوغ عليهم ثم فجأة تتخثر الحياة.

الموت يُخثّر الحياة، وعلى الأمهات الثكالى أن يُنافسن أيوب في صبره، وعليهن أن يصبن بالعمى من شدة البكاء، أو أن يقمن ما تبقى من حياتهن في الذهول، لأن أعلى مراتب الألم هو الذهول.

وحدها عدالة الموت ستزيل الفوارق بين الشبان المقتولين، فالموت لا يعترف بالتصنيف، فلان من جيش النظام وآخر من الجيش الحر وآخر من فصيلة الفاروق أو أحرار الشام أو الشياطين، الموت يمسح براحته الشاحبة الباردة على الوجوه كلها فتتشابه حدّ التطابق.

 

أمهات عاشقات حتى النخاع يتنفسن حب أبنائهن الموتى مع كل شهيق وزفير لا يزلن أحياء، حياة لا تشبه الحياة في شيء فهي تكرار أبدي للحزن بانتظار لحظة التوحد مع الحبيب الميت، أيّ ألم أكبر فجيعة أن تتكوم أمّ قرب جثامين أولادها.

 

وسيحاول الشهداء بكل أطيافهم أن يعزّوا أمهاتهم في عيد الأم: نحن مرتاحون هنا حيث لا رصاص ولا دبابات ولا صواريخ ولا زعيق طائرات ترمي الناس بالبراميل المتفجرة وتُجفل العصافير والبشر والحجر. نحن لم نملك قرار حياتنا حين كنا أحياء، قادونا إلى الموت كما تُقاد النعاج للذبح، الآن الموت رحمنا، حيث لا دم ولا صراخ ولا حزن، حيث الهدوء يعمّ المكان كما لو أن الله سيعيد خلقنا من جديد. نحن هنا لا نخاف الذبح ولا الموت تحت التعذيب ولا الموت غرقا ولم يعد يعني لنا أيّ شيء وطن لم يقدم لنا سوى الأكاذيب والمقابر. فقط نحن نشتاق إلى خبز أمّي وقهوة أمي، وأعشق عمري لأني إذا متّ أخجل من دمع أمي.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه