2016-05-03 

في الجنبلاطية السياسية.. السبسي مثالا

أمين بن مسعود

العرب - كثيرا ما ترجع التحليلات السياسية والقراءات الاستراتيجية تغيير المواقف بشكل ملحوظ إلى تذبذب في الطرح وانعدام براديغمات تفسيرية قادرة على تأصيل الرؤية وتثبيت المقاربة. وعلى الرغم من القدرة التفكيكية لهذه المقولة إلا أنّها لا تخفي حقيقة وجود مسلكية سياسيّة تروم القفز على المنطلقات والنكوص عن المواقف وتغيير الرأي بتغيّر المزاج الإقليمي والدولي وبانقلاب موازين القوى صلب الجغرافيا السياسيّة.

 

مثّل وليد جنبلاط القيادي والسياسي اللبناني الدرزي طيلة عقدين من الزمان على الأقلّ تجسيدا لسياسة التغيير الدراماتيكي في المواقف واستبدال المواقع ضمن مشهديّة المحاور والتكتلات المحلية والإقليمية والدولية المتشكلة في لبنان وعليه أيضا. وحال كلّ تغيير في موازين القوى بين الفريقين المتنافسين في لبنان -أصالة ووكالة أيضا- كان الكلّ ينتظر براعة جنبلاط في اجتراح التبريرات الذرائعيّة للانعتاق من هذا المحور ومعانقة الآخر.

 

صحيح أنّ لبنان دولة الطوائف والأقليات، ولكنّ الأصحّ أنّ هناك طوائف تعيش بمنطق المغالبة وأخرى تعيش بمنطق الاستضعاف، ما يجعلها تابعة لمركزيّة القوّة السياسية ومحورية الثقل الحكومي والدبلوماسيّ وهو ما قد يفسّر أسباب الانقلابات المتسارعة لدى جنبلاط المحكوم بـ”المنطق الأقلياتيّ” الباحث دوما عن الاستقواء بالأكثريّة الحاكمة والجماعة الغالبة.

 

بعيدا عن منطق الأقليات الإثنيّة وقريبا من منطق التبعيّة للمركز – سواء أكان فاعلا إقليميا أو فاعلا محليا متشكلا في الرأي العام- يبدو أنّ الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي يعتمد ذات المسلكيّة في استبدال المواقع والمواقف حتّى وإن أدّى هذا التذبذب إلى هزّ صورة المؤسسة الرسميّة واهتزاز “هيبة الدولة” المفتش عنها منذ انتخابات 2014

.

لم يكن تغيير موقف السبسي من التدخل الغربي تحت رعاية الأمم المتحدة في ليبيا بعد أن أبدى في أكثر من مرّة رفضه الحلّ العسكري في الجارة الجنوبية “الانقلاب القوليّ” الأوّل لرئيس الجمهوريّة الذي ينجرّ عنه بالضرورة اضطراب في مستوى التنسيق مع الدبلوماسية التونسية.

بالإمكان بكل سهولة تتبّع انقلاب الرئاسة على وزارة الخارجية في قرارات رسمية اعتمدت بالتشاور بينهما، انطلاقا من الموقف من تركيا على خلفية انخراط حكومة أردوغان في تسفير الشباب التونسي إلى سوريا، مرورا بالموقف من دمشق حيال استئناف العلاقات الدبلوماسية الثنائية وليس انتهاء بالاعتراف بالحكومتين الموجودتين في ليبيا (المؤتمر والبرلمان).

 

ولا يبدو أيضا أنّ مسألة تغيير المواقف لدى السبسي متعلّقة بالتنازع القائم في الصلاحيات بين وزارة الخارجية من جهة ورئاسة الجمهورية من جهة ثانية صلب نظام سياسي “شبه رئاسيّ شبه برلمانيّ” في تونس، ذلك أنّه انقلب في موقفه حيال التحالف مع حركة النهضة من النقيض إلى النقيض مرتين على الاقلّ خلال 2012 و2014

.

وفي كل مرة كان السبسي يركب موجة سياسية تضعه تارة في مركز القرار المحلي وتبوئه تارة أخرى صلب القرار الإقليمي والدوليّ وفي كلّ مرة كان السبسي يتنازل عن تحالفات ويدير ظهره لتكتلات وينقلب على أعراف رسميّة في التضامن الحكوميّ وفي وحدة المسار والمصير.

 

من الواضح اليوم أنّ تونس بلا سياسة واضحة في ليبيا، وأنّ حكومة الحبيب الصيد المرتعشة أعجز من صناعة قرار إقليمي معارض للتدخل العسكري في ليبيا أو على الأقلّ يؤمّن التنسيق المغاربي والعربي لمحاربة داعش والتنظيمات الإرهابية بدعم مقوّمات الشرعية في البلاد دون استنجاد بالقوى الدوليّة الغربية.

 

السبسي الذي اشتغل ردحا من الزمان وزيرا للخارجية يعرف أنّ القوى الأوروبية وعلى رأسها إيطاليا وفرنسا وبريطانيا باتت تحضر لتدخل عسكري في ليبيا بدعم من الولايات المتحدة -التي أمضت مؤخرا اتفاقية تعاون عسكري مع تونس تحول دون محاكمة أي عسكري أميركي قتل تونسيين على أرض تونس- لا سيما وأنّ التقارير الاستخباراتية العسكرية تتحدّث عن تصعيد الجماعات الإرهابية لعملياتها خلال شهر رمضان المعظم إضافة إلى تسييرها لقوافل التكفيريين نحو أوروبا تحت عنوان “الهجرة غير الشرعية”.

 

وهو بمقتضى هذا الأمر لن يجد غضاضة في الانقلاب على مواقف اجتماع وزراء داخلية دول الجوار الليبي (مارس 2016) ووزراء داخلية دول المغرب العربي (أفريل 2016) برفض التدخل العسكري في ليبيا حتّى وإن كانت تداعياته المزيد من التأزم في العلاقات مع دول الجوار ناهيك عن التداعيات الأخرى للتدخل.

 

نختلف مع من يعتبر السبسي وريث بورقيبة، ذلك أنّ الأخير بنى سياساته على استثمار التباينات الدولية وتوظيف الغموض البناء لتحصيل المنافع وتحييد المشاكل مع المحيط، أمّا السبسي فأصل سياساته على التناقض بين المواقف، وعلى المفارقة الواضحة بين خطاب رئاسة الجمهورية ودبلوماسية الخارجية والانسحاب الفجئي من المواقع، وهو بهذه المسلكية أقرب للجنبلاطية من البورقيبية.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه