قطرة من القاموس المحيط

مشاري الذايدي

 

اللغة تختزن الكثير من أسرار تطور المجتمع، أو قل هي ذاكرة حية تكبر، يحيا منها جزء وتموت أجزاء، أو قل هي شفرة نقية لكل أحلام وعادات وأفكار البشر. علماء الطبيعة يحددون عمر الشجرة من طبقات الجذع، والأخطر تحديد عمر الصخور بالقياس الكربوني لخطوط الحجر ومعرفة طبيعة الظروف المناخية السحيقة التي كان فيها هذا الحجر. اللغة شيء يشبه هذه المعايير، وفي ذلك كلام كثير لعلماء اللغة قديًما وحديًثا، في مسميات هذا العلم التليد منها والجديد. اللهجات المحلية نفسها هي أيًضا عنوان من عناوين التطور والنمو الثقافي للمجتمع، ماذا حل بالدارجة القاهرية أو السكندرية المصرية مثلاً منذ أيام ثورة عرابي، ثم ثورة 1919، وسعد زغلول، وعبد الله النديم، وكامل الخلعي، وشفيقة القبطية، وسيد درويش، وبيرم التونسي، إلى أنور السادات، وحسني مبارك، وعبد الحليم حافظ وعادل إمام ومحمود شكوكو؟ نتحدث عن المشاهير لأن كلماتهم مسجلة محفوظة.

الأمر ذاته عن اللهجات السعودية في نجد والحجاز وتهامة وعسير، من سبعين عاًما ثم الآن.. رحلة مثيرة وحافلة بالتحولات، التي كانت فيها الكلمات الشائعة الاستخدام، وبعضها زال من التداول، هي الشفرة التي حفظت هذه التحولات.. كما يتجلى ذلك في أرشيف الأغاني والمسلسلات والمقابلات التلفزيونية السعودية بالأبيض والأسود. هذا كان قبل انفجار الاتصالات الحديثة وتحطم السدود في التواصل بين كل الناس على هذا الكوكب، وهو تواصل مربك مخيف، مع الحسن الذي فيه، لكن معدة المجتمعات التي اعتادت شكلا محددا للطعام والشراب، لم تستطع حتى الآن هضم هذه الكتل الغثة من طعام الاتصالات البشرية الهائلة المتواترة على مدار الثانية. قبل أيام اختار قاموس «كولينز» الإنجليزي الكلمة الأكثر انتشاًرا في جديد القاموس الإنجليزي لعام 2015؛ وهي: binge ¬ watch التي تعني الإفراط في مشاهدة العروض التلفزيونية (خاصة كل حلقات مسلسل واحد) على التوالي. حسب نص الخبر، فإن هذا الأمر يعكس تغيًرا ملحوًظا في عادات المشاهدة، بسبب الاشتراك في خدمات مثل «نيتفليكس». وقالت هيلين نيوستيد، خبيرة صناعة المعاجم في «كولينز»: «من المألوف عن

المشاهدين الإفراط في مشاهدة موسم كامل من البرامج مثل (بيت من ورق) أو (بريكينغ باد) خلال ليلتين ¬ وهو ما كان يستغرق عدة أشهر في الماضي ¬ أيًضا الإفراط في المشاهدة على وسائل التواصل الاجتماعي». ترى لو أجريت دراسات مماثلة عن اللغة العربية واللهجات العربية؛ السعودية والمصرية مثلاً، كم ستكشف لنا الكلمات الجديدة عن حقيقة ما يجري علينا باستمرار من تحولات لا نشعر بها؟

* نقلا عن "الشرق الأوسط"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه