2016-01-19 

العراق: الدبلوماسية المقهورة في بلد الميليشيات

ماجد السامرائي

العرب - إذا كانت السياسة توصف بأنها فن الممكن، فالدبلوماسية هي أعلى حلقات الممكنات في السياسة وهي مرحلة متقدمة تتعاطاها الدول، وكلما ترسّخت عراقة تلك الدول كلما تألقت دبلوماسيتها. هناك دول في التاريخ المعاصر عرفت بقدرتها على أداء هذه الوظيفة المميّزة ومن هنا تأسست الأمم المتحدةالكبار هم الأكثر قدرة على اتخاذ القرارات السياسية، يعتقدون أنهم رعاة الصغار المنشغلين بمداراة أحوالهم الداخلية الخاصة وليس التطلع خارج حدود بلدانهم. من معطيات الدبلوماسية لعب أدوار الوساطات حين تنشب أزمات خصوصا لدى دول الجوار ويحدث ذلك مرارا، وقد تنشب من جراء الأزمات الصغيرة حروب كبيرة.

 
 
 
 

 

 

هناك مثال آخر أهم حصل قبل ذلك التاريخ، وهو المفاوضات العسيرة التي جرت من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، خافيير ديكوييار، وبدعم أميركي خفي للوصول إلى وقف إطلاق نار لحرب الثماني سنوات بين بغداد وطهران، كان السفير السعودي المخضرم في واشنطن بندر بن سلطان هو من أدار الساعات الحرجة الأخيرة من مفاوضات وقف الحرب. كان يسمع من طهران الخميني عبر ديكوييار وينقل من بغداد صدام مباشرة عبر حديثه مع الراحل طارق عزيز، وكنت حاضرا تلك اللحظات وهذه شهادة تاريخية.

معنى ذلك أن وسطاء الأزمات هم مرتبة عالية في الدبلوماسية وموقع ثقيل في السياسة الدولية. بعد تلك الأمثلة لا أعرف أين أضع ما يسمّى بوساطة إبراهيم الأشيقر الجعفري في مكان السياسة والوساطات حين يعلن عن قيامه بوساطة بين السعودية وإيران في وقت حكومته ليست فقط منحازة لإيران وإنما قيادة المرشد الأعلى خامئني هي المنظر الفكري والسياسي لحكومة بغداد، ولا تجمع الأحزاب الشيعية الحاكمة وقادة الميليشيات برجل الدين السعودي سوى النعرة الطائفية، لهذا كانت حربهم الإعلامية ضد السعودية وشارك فيها رئيس الوزراء حيدر العبادي وليس رئيس حزبه نوري المالكي فقط، لكي يعلن رئيس الجمهورية فؤاد معصوم أن حكومته بريئة من تصريحات المالكيكما لم يتحقق الحد الأدنى من الوساطة المزعومة وهو استشارة طرفي النزاع؟ لكي يعلن وزير الخارجية الجعفري في مؤتمر صحفي بمقر الجامعة العربية أن من قام بالعدوان على السفارة السعودية في طهران عصابات إجرامية، وهو عذر لم تعلنه إيران ذاتها.

 

إن بلدا يفشل سياسيوه في إدارة حكمهم الداخلي للشعب، هل يتوقع قدرتهم على امتلاك دبلوماسية لها مكانة عند العرب وغير العرب. هل متوقع من بلد أصبحت حكومته تستورد البصل والبنزين والعدس من إيران أن يكون كبيرا وتسمع كلمتههل يتوقع من بلد مياه رافديه “تنبع من إيران”، بحسب تصريحات وزير الخارجية نفسه، وهي ليست كذلك بل تنبع من تركيا أن تنحني الرؤوس وترفع القبعات احتراما لتلك الحكومة؟ هل يتوقع من بلد ترتضي حكومته ألا يرفع علم بلدها في بعض الزيارات الرسمية، وهناك أكثر من فضيحة موثقة، أن تسمع كلمته في وساطة؟

 

هل يتوقع من حكومة بلد أن تكون ذات مصداقية، وهي تنقض كلمة شرف “دبلوماسية” ببقاء قوات تركية لسنوات على أراض عراقية؟ دائما في أعرق علاقات الدول ما يطلق من تعهدات لرجال الحكم المعتبرين لا يحتاج لوثائق، ثم ينتفضون ضدها ويعبئون جحافلهم لمقاطعة البضائع التركية، لكي يخلو سوق العراق للبضائع الإيرانية الكاسدة والمتعفنة. لأن تركيا دخلت في أزمة مع روسيا بسبب إسقاط طائرة عسكرية، لدرجة أن موسكو تتقدم بطلب شكوى أزمة تواجد القوات التركية في العراق نيابة عن حكومة بغداد في أسوأ فضيحة دبلوماسية عرفها التاريخ.

 

هل يتوقع من بلد كان يمتلك مؤسسة طيران من أرقى الخطوط الجوية المحترمة في خدمتها وسمعتها، ثم تُحتقر هذه الخطوط لدرجة لا توضع لها مرابض في الأرصفة المحترمة ثم تمنع من المرور والخدمة في أوروبا لسوء سمعتها، وحين يذهب المرء على الخطوط التركية المحارب بلدها من قبل الملتزمين بتوجيهات “ولاية الفقيه” يرى مكانتها العالمية ورقيّ سمعتهاهل يتوقع من بلد حكومته لا تؤمّن على سلامة مواطنين عرب يأتون للصيد، وهي عادة مرت عليها المئات من السنين ثم يختطفون من قبل ميليشيات؟

 

ولماذا يستغرب وصول الدبلوماسية العراقية إلى هذا المستوى حين يكون كادر الوزارة من السفراء وحتى أصغر دبلوماسي لم يتخرجوا من معهد كان قبل عام 2003 كالسيف تنطبق مقاييسه على جميع السفراء، وأن طاقم الخارجية كان يحوي الكثير من الكفاءات المتميزة على المستويين العربي والدولي من ذوي الشهادات العليا والخبرات الطويلة.

 

كانت للعراق أسماء لامعة في الدبلوماسية تتحدث عنها الأوساط العالمية، وكنت أسمع هذا الإطراء في مجال عملي الدبلوماسي السابق، خصوصا في الخطين الأول والثاني وزراء وسفراء أمثال: فاضل الجمالي، عدنان الباججي، أرشد العمري، توفيق السويدي، عبدالرحمن البزاز، طارق عزيز، سعدون حمادي، شاذل طاقة وغيرهم من الوزراء، وكان بينهم الشيعي والكردي والسني بلا تمييز غير الكفاءة وحب العراق. إضافة إلى الوكلاء والكوادر الدبلوماسية الأساسية، ولا ننسى أن المرحوم عصمت كتاني أصبح أمينا عاما مساعدا للأمين العام للأمم المتحدة، ثم رئيسا للجمعية العامة باسم العراق. لكن وزارة الخارجية اليوم شملها الفساد بكل وجوهه وهناك فضائح لسفراء عُيّنوا في السنوات الأخيرة لا يمتلكون مؤهلات وحصلت ملفات فضائح لا نريد استعراضها.

 

وفي جميع دول العالم المتقدمة التي تحترم نفسها، سفراؤها تحترمهم دولهم حتى وإن تبدّلت الحكومات لكونهم ثروة حتى وإن تقاعدوا، وتجعلهم يحتفظون بهذا اللقب السامي على جوازات سفرهم حتى نهاية أعمارهم، بل وتضعهم في مراكز استشارات سياسية وبحثية وتنتدبهم في مهمات دولية بحسب مناطق عملهم السابقة. أما في العراق فيُحرم السفير حتى من حقوقه التقاعدية لأنه خدم بوظيفته لبلده في العهد السابق. الأمثلة كثيرة.. فالدبلوماسية في العراق مظلومة حقا.

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه