يعتبر المؤرخون شهر آذار (مارس) من أكثر شهور السنة عنفاً واضطراباً وصخباً. والسبب أن الأحداث التاريخية المهمة التي اشتهرت بها أيامه، تركت في ذاكرة الشعوب حكايات مآسٍ يصعب محوها أو نسيانها. وكانت حكاية مصرع يوليوس قيصر من أبشع تلك المآسي، وأكثرها رعباً ودموية، خصوصاً بعدما خلدها وليام شكسبير في مسرحية تراجيدية مؤثرة. ثم اقتبستها هوليوود وقدمتها في فيلم رائع أبرزت من خلاله الدور الذي لعبه مجلس الشيوخ ضد أهم قائد في تاريخ الامبراطورية الرومانية. ومن المؤكد أن اكتشاف مكان اغتيال يوليوس قيصر في روما قبل فترة قصيرة، جدد أبحاث الخبراء والمؤرخين عن تلك الجريمة التي ارتكبت سنة 44 قبل الميلاد. ويعود الفضل في ذلك الاكتشاف إلى المجلس الوطني الإسباني الذي تعاون مع بلدية روما في البحث عن مكان الاغتيال. وأوضح بيان صادر عن فريق الحفريات التابع للمجلس أنه عثر بالصدفة على منحوتة كان أغسطس - ابن قيصر بالتبني - أمر بتثبيتها في مكان يدعى «كوريا مومبيا» في وسط العاصمة الإيطالية. وتزامن هذا الاكتشاف مع ملف التحقيق الذي أشرف على إعداده الكولونيل الإيطالي لوسيانو غاروفانو، على اعتبار أن التحقيق في مقتل القيصر لم يتم في حينه. والسبب أن الاقتتال الداخلي، بين مؤيدي الإمبراطور وخصومه، لم يترك المجال قبل 2058 سنة من أجل إجراء استقصاء شامل يحدد أسباب اقتراف تلك الجريمة الجماعية. القضاء الإيطالي اختار الكولونيل غاروفانو لإحياء المحاكمة لأسباب، أولها النجاح الذي حققه أثناء محاربة عصابات المافيا التي اشتهرت بها إيطاليا. وثانيها إلمامه العميق بهذا النوع من الجرائم السياسية التي يحاضر عنها في جامعة «تورينو». وأخيراً لأن المحاكم الجنائية الأوروبية تعتبره مرجعاً موثوقاً في القضايا الشائكة والدعاوى العصيَّة على الحل. كل هذه المواصفات رشحته للقيام بدور المحقق العدلي في أخطر جريمة عرفها عصر الإمبراطورية الرومانية. باشر غاروفانو مهمته بطرح سلسلة أسئلة منطقية اعتبرها ضرورية لفتح باب التحقيق: - لماذا منع يوليوس قيصر حراسه من مرافقته إلى مجلس الشيوخ، على رغم تأكده أن خصومه يبيتون له الشر؟ - ولماذا أصر على تحدي خصومه وحيداً، وتجاهل اعتراض زوجته وقادة معسكره؟ - ولماذا صمّ أذنيه عن سماع صيحات العرّاف الذي فاجأه بالتحذير من شؤم يوم 15 آذار (مارس) وتمنى عليه ألا يذهب إلى مكان لن يرجع منه سالماً؟ ولما عجز غاروفانو عن إيجاد أجوبة مقنعة لأسئلته المقلقة، استند في عمله إلى التقرير الطبي الذي وضعه الطبيب انتيستيوس، أشهر أطباء ذلك الزمان. وهو كان أول شاهد على تلك الجريمة، والوحيد الذي عاين القتيل لتحديد سبب الوفاة. واستند المؤرخون إلى تقريره، باعتباره الطبيب الخاص لعائلات قادة المحاربين وأسر النبلاء. وكتب الطبيب بعض الملاحظات التي تؤكد إصابة القيصر بـ23 طعنة غالبيتها غرِسَت في الظهر ومؤخرة الساقين، الأمر الذي يشير إلى خوف المتآمرين من مواجهة الشخص الذي انتظروا حضوره خمس ساعات. وسجل ذلك الطبيب إصابة بعض المتآمرين بجروح غير قاتلة، نظراً إلى اندفاع المتحمسين منهم وتجمعهم في موقع واحد. وذكر أيضاً بأن عددهم لا يزيد على أحد عشر شخصاً، وأن الطعنة القاتلة سددها بروتوس من جهة الخاصرة. وفي المسرحية التي كتبها شكسبير عبارة شهيرة مقتضبة ذهبت مَثلاً لوصف كل إنسان عقوق ناكرٍ للجميل: «حتى أنت يا بروتوس؟ إذن، ليسقط القيصر»! واستخدِمت في مسرحيات أخرى على النحو التالي: «اشترك في هذه المؤامرة عدد من نواب مجلس الشيوخ الذين اتفقوا - بتدبير من كاشيوس - على قتل القيصر. وكان آخر مَنْ طعنه بروتوس الذي خاطبه الإمبراطور قائلاً: حتى أنت يا بروتوس؟ وكان الجواب: أنا أحبك... لكنني أحب روما أكثر». في حين حرص بعض المؤرخين الرومان على استعمال عبارة أكثر حدّة في معناها كقول قيصر: حتى أنت يا ولدي؟ والمعنى المستتر هنا يشير إلى اعتراف القتيل، في لحظة الموت، بأن ما يُشاع في روما آنذاك كان صحيحاً. أي أن سيرفيليا، والدة بروتوس، كانت واحدة من الخليلات اللواتي عشقهن الإمبراطور، واعتبرن من المحظيات. وفي تحليل قدمه عالم نفسي، يظهر بروتوس في نظر المجتمع كولد غير شرعي - أي ابن زنا - وأن مشاركته في عملية الاغتيال لم تكن إلا من قبيل الانتقام ممن شوّه سمعته. وفي مسرحية «يوليوس قيصر» التي ترجمها إلى العربية الأديب والشاعر خليل مطران، تظهر صورة أخرى لديكتاتور وظّف انتصاراته العسكرية لكسب المزيد من النفوذ السياسي. وكان من الطبيعي أن يقوده ذلك التحول من لعب دور زعيم يؤمن بالجمهورية وحكم الشعب، إلى طاغية مستبد صنع من روما إمبراطورية ممتدة إلى كل بقاع ذلك الزمان. ويروي المؤرخ اليوناني بلوتارك عنه حكايات طريفة، خصوصاً بعد عودته من الحملات العسكرية الناجحة. ذلك أنه كان يركب عربة يجرها حصانان أبيضا اللون، ويضع فوق رأسه إكليلاً من الغار، علامة الظفر. وكان حارسه الشخصي يركب وراءه في العربة التي تشق طريقها بصعوبة وسط جموع المستقبلين والمهللين. واقتصرت وظيفة حارسه، في ذلك الحين، على الهمس في أذنه بعبارة مؤداها: «تذكر أنك إنسان!» وفي نهاية الأمر، يتذكر يوليوس قيصر أنه إنسان، وليس نصف إله، كما يريد من الشعب أن يعامله ويتخيله. ومع هذا كله، فقد نجح كاشيوس، الطامح إلى الملك، في إقناع بروتوس بضرورة التخلص من الإمبراطور الذي ألغى النظام الجمهوري بسبب سقوطه الأعمى في شهوة الحكم المطلق. لنعد إلى السؤال الأول الذي طرحه المحقق المكلف عن الدافع الحقيقي الذي جعل الإمبراطور يرفض مرافقة حرسه الخاص. علماً بأن وجود حراسة مكثفة كان كفيلاً بإبعاد خطر الموت عنه. ولدى بحثه عن الجواب، اكتشف غاروفانو أن الإمبراطور كان يعاني من مرض الصرع عقب المعركة الأخيرة التي خاضها في بلاد الغال. وربما كان ذلك نتيجة ضربة قوية على الرأس أحدثت له ارتجاجات في الدماغ. ويذكر البروفسور ستراوس من جامعة كورنال أن يوليوس قيصر توقف عن حضور جلسات المجلس، واختفى داخل جدران قصره. والسبب أنه كان يخشى من ظهور نوبات التشنج التي تتفاوت أعراضها بين حين وآخر. وكثيراً ما كان يقاومها بالارتماء على أرض الغرفة، ويروح يعض لسانه، ويطوي جسده المرتجف كأن قوة داخلية تهزه وتدفعه إلى تقويس ظهره والضغط على بطنه. وقد تدوم هذه الحال بين عشر ثوان وثلاثين ثانية قبل أن يسترجع وعيه ويتحرر من اضطرابه الجسدي. ويعترف الخبراء بأن ستين في المئة من أسباب مرض الصرع... مجهولة. وقد يكون بعضها وراثياً أو نتيجة غدة سرطانية في الدماغ تشوش كهرباء الرأس وتعطي الجسد شحنات قوية يصعب احتمالها. ومن الأعراض المرافقة لمرض الصرع ضعف المثانة والإسهال المتواصل. ولما ظهرت هذه الحقيقة، راجع المحقق ظروف تلك الجريمة على ضوء الحدث الذي خطط له القيصر، وكان ينتظره بفارغ الصبر. أي أنه كان يريد التخلص من عذابه الجسدي، ويرغب في أن يؤدي هذه المهمة الصعبة خصومه في المجلس. لذلك رفض مرافقة الحرس لئلا يؤخرون ما قرر حصوله. ويصف المؤرخ الروماني سواتونيوس الذي كتب سيرة يوليوس قيصر المشهد الأخير بهذه العبارات المقتضبة: «عندما وصل إلى المجلس، أسرع إلى الجلوس فوق كرسي العرش. وتقدم منه المتآمرون بقيادة كاشيوس، وطلبوا منه الوقوف، ولكنه لم يفعل. لا لأنه لم يذعن لأوامرهم، بل لأن وقوفه سيعرضه للسخرية، على اعتبار أنه لم يكن قادراً على ضبط احتقان معدته». وبهذه الشهادة ينهي غاروفانو تحقيقه، ويقول إن مقتل القيصر رفع من أهمية مارك أنطونيوس الذي حمل الجثة المخضبة بالدماء، وأطل بها على الجماهير المحتشدة في الخارج. وعلى اثر الخطبة التي ألقاها مارك في مديح منجزات يوليوس قيصر، عمَّت الفوضى، واندلعت حرب أهلية، وهرب بروتوس وكاشيوس خوفاً من انتقام الشعب الغاضب. وبعد نشر كامل تفاصيل التحقيق في الصحف الإيطالية، قامت صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية بإنتاج فيلم تلفزيوني تحت عنوان: مَنْ قتل يوليوس قيصر؟ وتحدث فيه غاروفانو بإسهاب عن تلك الواقعة التاريخية، ولكنه تردد في تحديد الموقع الذي جرت فيه المؤامرة. مطلع هذه السنة، اكتشف «المجلس الوطني الإسباني للأبحاث» لوحة رخامية تشير إلى مقر مجلس شيوخ بومبيي، حيث اغتيل القيصر. والسبب أن المجلس الأصلي كان قد احترق. لذلك استعيض عنه بمجلس موقت في منطقة «توري أرجنتينا» الأثرية في وسط روما التاريخي. ومع اكتشاف المكان، قررت روما إعادة قراءة الحدث بدقة متناهية، ظهرت من خلالها حيثيات الجريمة التي ساعد القتيل على تنفيذها، خصوصاً أن التحقيق يتعلق بشخصية يعتبرها المؤرخون من أهم بناة مجد الامبراطورية الرومانية التي استمرت حوالى 700 سنة قبل أن ترثها الامبراطورية البيزنطية في الشرق، واستمرت حتى القرن الخامس عشر.