حين لا تتمكن من الحصول على تفسير منطقي لما يحدث أمامك، فإنك بالإحساس والحاسة تتوجه إلى علم النفس، ذلك أن كل حركة معاكسة للمنطق، تكون غالباً مبنية على عدد من التراكمات النفسية، والصراعات الإنسانية الداخلية، التي لا يستبينها المحللون مبكراً.
وهذا ما يمكن إسقاطه على معظم تصرفات أمير قطر السابق الشيخ حمد آل خليفة، وقراراته السياسية في الداخل، والخارج، التي لم يثبت أن لها فائدة إستراتيجية لبلاده ولا لمستقبلها.
إن آخر علاقة مباشرة له بالشأن السعودي تنبئ المراقبين بصواب نظرية التحليل النفسي للقرار السياسي في الدوحة، ذلك أن الزيارة الأخيرة، التي قام بها إلى مسقط رأس آل ثاني في بلدة أشيقر، التي تبعد عن الرياض نحو 200 كلم، هي أحد مشاهد التشوش النفسي التي لا يمكن أن تخفى على أحد.
كانت تلك الزيارة المشهد الأخير الذي تصرف فيه السعوديون بحسن الظن مع قطر وأميرها صاحب الأحلام الكبيرة، إذ حظي باستقبال ملكي رفيع، ورافقته طائرات عمودية سعودية إلى البلدة التي استقبلته كعادة أهلها بكرم وخلق.
كانت الزيارة ظاهرياً بسيطة الشرح: رجل مصاب بمرض كلوي قاتل يريد زيارة مسقط رأس عائلته قبل أن تضع المقادير أقدارها.
إلا أن ما كشفت عنه هذه الزيارة تسبب في قرع أجراس التحذير في المملكة، وتوصل رجالاتها إلى أن حمد لم يتغير، وأحلامه لم تتوقف بعد. فقد كانت تعهداته لبعض من سمعه مريبة: تبرع بمليار دولار يمكن توجيهه إلى ما يشاؤه أهل البلدة، وتعهده بأن بلاده لن تترك "تميميا" يريد الانتقال إلى قطر إلا وأن تحيطه بكامل الرعاية والاهتمام، والكثير محاولات الإغراء وبكافة الطرق.
وبكرمهم المعتاد، ودماثة خلقهم الرفيعة، رفض التميميون غزل إبن عمهم المشبوه، وبأدبهم الجم أكملوا واجب الضيافة والزيارة، وأصدروا بعدها بيانا شهيراً يؤكدون فيه ألا مكان للعصبية القبلية بينهم، ولا ولاء لغير آل سعود ملوكاً وحكاماً.
كانت تلك الطلقة الأخيرة التي أراد حمد أن يطلقها في سماء المملكة، لكنها ارتدت إليه بصورة عقوبات ومقاطعة أنهت نفوذ الدوحة الدولي.
لا يحلم حمد بماء أشيقر التي كانت نبع بني تميم، ولا بنخيل الدرعية مسقط رأس آل سعود، وآل الشيخ الذي حاول الانتساب إليهم فنفوا أي رابطة أو وشيجة تصلهم به، بل يحلم بالعالم العربي كله، والإسلامي أيضاً.
كان حمد يعتقد أن السعودية هي جائزته الحقيقة، ودرة التاج في حكمة، ذلك أن قطر بمساحتها المحدودة، وعدد سكانها البسيط، لا يمكن لها أن تكفي أحلامه الكبيرة. ومنذ السنوات الأولى التي تولى فيها حكم بلاده بعد انقلاب على والده، كانت عيناه تتوجه هناك، إلى خارج الحدود، وإلى السعودية بالتحديد.
كان حمد يبحث عن الثغرات التي يمكن من خلالها تثبيت تواجد قطري في المملكة، وحاول بكل الوسائل الناعمة: تشجيع آل ثاني على شراء مزارع في الأحساء، واستثمارات قطرية في كل مكان، وصلات مع عدد من الشخصيات الثقافية والفنية والرياضية وصناع الرأي العام.
ووصلت الذروة إلى فكرة تشكيل لوبي سعودي قوي في المملكة، عمل بعد ذلك على تكوينه بهدوء، وانضم البعض راغبا في مكان ما في المستقبل، والبعض انضم له عن جهل وقلة معرفة بمآلات الأمور.
لقد سخّر حمد وفريقه المتخصص في الملف السعودي كل إمكانيات بلاده لاستقطاب السعوديين، أو بناء صلات معهم، مالية وعملية بشكل خاص.
كانت فكرة الحمدين هي التهيئة لمناخ الثورة في المملكة عن طريق إشاعة ثقافة الإحباط، وصناعة نجوم يدينون بالولاء للدوحة، واستقطاب كل مؤثر ومن أي تيار، لقيادة الرأي العام، واستخدامه حين تحين اللحظة المناسبة.
وصل الأمر للتفاوض المباشر بين حمد بن جاسم وعدد من رجال الدين المؤثرين دون حواجز، بل إن الدوحة حاولت في تصرف مكشوف الحصول على حقوق الدوري السعودي عن طريق وسيط هو رجل دين شهير، وشهير جداً، أدى مهمة المفاوضات بحماس، ولكنها فشلت في النهاية.
كانت تلك اللحظات مخيفة وغريبة جداً. فقد كانت مجرد محاولة الإشادة بأي قررا حكومي سعودي تعني الاصطدام بأمواج هادرة من المنتقدين والساخرين. كان هذا جزءا من صناعة الثورة، التي عرفت قطر علومها، ووزعت الأكاديميات في عدد من البلدان العربية، لاستقطاب الشباب، وخصوصا السعوديين منهم، لتلقينهم الأفكار، وتسويقها في الداخل السعودي.
كان مخطط الحمدين بكل وضوح: إشاعة مناخ من حالة عدم الرضى على الحكومة السعودية، والسيطرة على تويتر الذي هو منصة التأثير الكبرى بالنسبة للسعوديين، واستقطاب بعض من نجومه، وقادته. وكما قلت، فإن البعض انقاد بهوس التغيير والإيدلوجيا، والبعض قيد دون أن يدري.
لقد حصل البعض على مبالغ ضخمة مقابل مهام لا تبدو بشعة. محاضرات وندوات ومقالات واستضافات، وكلها مدفوعة الثمن بأكثر مما يستحق العمل المقدم، والبعض كانت لديه نفس الأحلام التي يمتلأ بها رأس حمد آل ثاني.
كان المشهد عبثيا لهذا اللوبي القطري السعودي الذي أصبح مكشوفاً : داعية يحصل على مبالغ ضخمة مقابل محاضرات في جامع، وأكملها عن طريق سكايب حين منع من السفر. وداعية آخر حصل على مبالغ ضخمة مقابل محاضرات متقطعة في جامعة قطرية. وكثير من ذلك. ولم تنقطع اتصالات الدوحة ومسؤوليها بعدد من الدعاة لتجنيد الشباب او احتوائهم حتى تحين اللحظة.
لم توفر الدوحة شيئا على الأرض السعودية إلا وحاولت استغلاله لتهيئة مناخ الثورة وتعظيم السخط الشعبي: الأقليات، الأندية، اللاعبين، المسلسلات التي تبث أفكارا طوباوية عن العدل والحكم الإسلامي، البرامج التلفزيونية التي تستهدف إشاعة الحرية بأي ثمن.
وهذه الأفكار مسموح بها في العالم كله إلا ... الدوحة.
كان الحمدان يملكان يقينا غير قابل للمناقشة بأن لحظة سقوط المملكة قادمة، ولابد من استغلالها. أنفقا على هذه الأحلام المليارات. كان يمكن لقطر أن تكون شوارعها مرصعة بالألماس، قياسا بالحجم والعدد والموارد، لولا مغامرات الحمدين في كافة أصقاع الأرض. لا يمكن أن تحكم العالم، وانت لا تستطيع توفير الحليب واللبن لأقل من نصف مليون مواطن.
لقد أصيبت قطر في مقتل بعد القرار الجريء بمقاطعتها، والذي قاده الملك سلمان بكل حزم. كان لابد من وضع نقطة على السطر. لم تعد الدوحة قادرة على اللعب في كل الملاعب، والقيام بكل الأدوار. لقد انكمشت إلى داخل حدودها، وعادت إلى حجمها الطبيعي.
كباحث بسيط في العلاقات الدولية أرى أن مقاطعة قطر كانت أهم قرار استراتيجي سعودي خلال العقد الأخير، ذلك أنها الدولة التي سعت فعليا، وبمخططات طويلة المدى، لهدم أكبر كيان في الجزيرة العربية والعالم العربي والإسلامي.
إن مشهد البث المباشر لقناة الجزيرة، التي تعبر أقوى أدوات قطر، لمشهد وصول 3000 بقرة، يُبين الحد الذي وصلت له الدوحة بفعل المقاطعة.
إن قطر تدفع ثمن الحالة النفسية التي يعيشها الأمير السابق حمد آل ثاني. التشوش الفكري، والسياسي في مخيلته، عائد الى صراع الأبطال والأدوار في تصوراته.
يحلم حمد بأن يكون عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعبد العزيز بن سعود، وجمال عبد الناصر، والقعقاع بن عمر و، وجيفارا، لكن الحقيقة المرة هي إنه وبعد كل هذه السنوات، لم يستطع حمد إلا إن يكون حمد ... وحمد فقط لا أكثر.
مقال مختصر ومباشر ولذيذ في سرده وترابط فكرته شكراً لهذا الكاتب الرائع
بالضبط مجرد حمد
مقال اكثر من رائع شكرا لك سلطان القحطاني وكما قلت لا يستطيع حم ان يكون الا حمد فقط اللهم احفظ دولتنا السعوديه واحفظ حكامنا الحزم والعزم