2015-10-10 

أدب المفوض

سمير عطالله

كان الأدب الروسي في القرن التاسع عشر من أعظم آداب العالم. الرواية تتقدم الإنجليز والفرنسيين والإسبان. وكان الفن الروائي سارحًا بين الواقع والخيال. وبرز ألكسندر سولجنتسين في القرن العشرين لأنه جعل «الواقعية المتخيّلة في خدمة الحق والضمير والعدالة». وفي القرن السابق، كان تولستوي قد قال إن «بطل روايتي الذي أحبه بكل قوى روحي، والذي كان دائمًا جميلاً، وسوف يبقى، هو الحق». جاء السوفيات فأمروا بأن يكون الأدب في خدمة «الاشتراكية الواقعية»، مثل الشرطة وقوميسار الحزب ومهرجان المربد. عندما تضع للأدب مواصفات مثل مقاولات العمار، تتحول الكتابة إلى إسمنت مسلح. شاعر روسيا الأكبر ألكسندر بوشكين كتب في ملحمته الجميلة «أوجين أونيغين» أنه يحلم بأن يصل شعره إلى جيرانه البسطاء والناس الذين لا يقرأون. وقد وصل إليهم فعلاً ووصل إلى كل روح روسية. أما شاعر «الاشتراكية الواقعية» افتوشنكو فظل أسير القيود ولم يعرف شيئًا من مجد بوشكين. هل الشيوعية هي السبب؟ لا. لا. لقد كان التشيلي بابلو نيرودا والتركي ناظم حكمت من أعظم شعراء القرن الماضي. وكذلك اليوناني نيكوس كازانتزاكيس وكثيرون من أدباء أميركا اللاتينية، غير أنهم كتبوا بعيدًا عن أحكام «الاشتراكية الواقعية» والضوابط التي يضعها «مفوض» الحزب، وهو عادة رجل لا يحب الشعر ولا الأدب، ويعتبر الرواية تهتكًا قوميًّا وترفًا بورجوازيًّا. الذين خرجوا عن «الواقعية الاشتراكية» اضطُهِدوا أو نُبِذوا، أو مثل سولجنتسين اتُّهِموا بالخلل العقلي. ونال بوريس باسترناك نوبل للآداب في الغرب عام 1958، بينما أحكم من حوله الطوق في موسكو، ووضع تحت رحمة المخبرين الذين لا علاقة لهم إلاَّ بالسوط والعتم. لقد تجرأ باسترناك على انتقاد تناقضات لينين. وذهب إلى أبعد من ذلك عندما انتقد تولستوي في «الحرب والسلم»، لأن صاحبها أنكر على نابليون البطولة. أراد باسترناك القول إنه يمكن لعدوك، من جانبه، أن يكون بطلاً. وأراد أن يقول إن لينين استنكر التخريب عند سواه، ومجّده عند البلاشفة. وتُقرأ رواية «الدكتور جيفاغو» اليوم كعمل أدبي محض، بعيدًا عن المناخ الستاليني، أو مناخ الدعاية الغربية المضادة. لقد تحوّلت رواية «الدكتور جيفاغو» وأعمال بوريس يلتسين إلى موضع صراع سياسي دعائي بعيد عن عظمة الأدب. والمؤسف أن حقبة عربية كاملة من العطاء قد ضاعت في غبار تلك المرحلة. ولا نعرف عدد المواهب، أو الأعمال الأدبية، التي لم ترَ النور بسبب قبضة «القوميسار» ونظرته إلى الذوق الأدبي. وقد تشابهت الأنظمة في توكيل الحكم على النتاج الأدبي إلى رجال الشرطة. ونحن نعرف أسماء جميع الأدباء العرب الذين مرّوا في سجون العرب، لكننا، مع الأسف، لا نذكر اسم سجّان واحد. *نقلا عن "الشرق الأوسط"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه