هذه قصة أستهل بها حديثا عما جرى فى اليمن بعد انطلاق «عاصفة الحزم». واعترف بأننى تعمدت تجنب الخوض فى الموضوع خلال اليومين الماضيين لأننى لم أكن قادرا على استيعاب المشهد. ذلك ان الدهشة التى أصابتنى أعجزتنى عن تصديق ما جرى ويجرى فى فضائنا السياسى والإعلامى. حتى صرت أضرب كفا بكف طول الوقت وأتساءل: حلم هذا أم علم؟! القصة نشرتها جريدة «التحرير» المصرية يوم ٢٧ مارس الحالى، قبل يوم واحد من انعقاد القمة العربية فى شرم الشيخ وخلاصتها كالتالى: كان يوم الأربعاء ٢٥/٣ موعد مناقشة رسالة ماجستير فى كلية الإعلام موضوعها «الدبلوماسية الشعبية لإسرائيل». واعتمدت صاحبة الرسالة آلاء فهمى فى بحثها على تحليل منشورات المسئولين الإسرائيليين عبر شبكة التواصل الاجتماعى (فيسبوك). وهو نوع من الدراسات التى تعمد إلى تحليل الخطاب السياسى الإسرائيلى لكشف ما فيه من عدوانية وزيف، وكان تركيز الباحثة على فضح الأساليب التى يتبعها الساسة الإسرائيليون لتمجيد الذات وتشويه الآخر، الذى هو فى هذه الحالة الفلسطينيون والعرب أجمعون. لأن الرسالة لم تكن متعاطفة أو متصالحة مع إسرائيل، فقد اعتبرتها عميدة كلية الإعلام بمثابة سباحة ضد التيار السائد فى الأجواء المصرية الراهنة. ولأن الحس الأمنى والتماهى مع الوضع السياسى أصبح يحتل موقعا متقدما فى الجامعات وأغلب القيادات الأكاديمية، فإن عميدة الكلية اعترضت على مضمون رسالة الماجستير، ورفضت انعقاد حلقة المناقشة فى الموعد المحدد. وطبقا لما ذكرته الجريدة فإنها اعتبرت ان الموضوع مرتبط بالأمن القومى، وانه كان ينبغى إخطار الجهات المعنية (الأمنية) بالأمر قبل موعد المناقشة! أمام هذه الحجة الساذجة والمضحكة فإن الأمر احتاج إلى تدخل من جانب رئيس جامعة القاهرة وبعض الأساتذة لإقناعها بأن الاعتراض لا محل له، وان البحث لا علاقة بالأمن القومى المصرى. وكان الحل الوسط الذى تم التوصل إليه هو ان تجرى المناقشة فى موعدها، شريطة إخلاء القاعة من الطلاب مع قيام أمن الجامعة بفرض طوق أمنى حول قاعة المناقشة، (كما هو الحال فى مباريات دورى كرة القدم). لكى لا تثار أية «شبهة» حول موقف عميدة الكلية من فضح الخطاب السياسى الإسرائيلى، فإنها لم تحضر المناقشة، وكان موقف الأساتذة الذين أداروها أفضل كثيرا، لأنهم ثمَّنوا رسالة الماجستير وأعطوا الباحثة الدرجة بعدما قدروا جهدها الذى استحق مرتبة الشرف الأولى. إذا صحت القصة التى نشرتها جريدة «التحرير» فإنها تعد شهادة كاشفة عن المدى الذى بلغه التغير فى المزاج العام لبعض عناصر النخبة المثقفة المصرية (والعربية أيضا) إزاء الملف الإسرائيلى والقضية الفلسطينية بالتالى، وهو أمر ليس مفاجئا تماما، لأن التغير فى المزاج العام ليس مقصورا على النخب المثقفة، وانما بدأ فى محيط النخب السياسية وأبواقها الإعلامية التى ما برحت تشوه الإدراك العام فى المحيط العربى. وكان طبيعيا أن ينتهى ذلك بإحداث انقلاب فى الرؤية الاستراتيجية التى حولت «القضية المركزية» الأولى فى العالم العربى إلى القضية الأخيرة حينا. وإلى مجرد صراع فلسطينى ــ إسرائيلى حينا آخر. وفى ظل هذا المنظور فإن العدو الاستراتيجى الأول للعرب لم يعد إسرائيل أو الصهيونية، وإنما صار إيران والشيعة. والأزمة التى حدثت فى كلية إعلام جامعة القاهرة من إفرازات وأصداء ذلك الانقلاب التى باتت تتردد بجرأة صادمة فى بعض المنابر الإعلامية المصرية. قمة شرم الشيخ وفكرة تشكيل القوة العسكرية العربية المشتركة شاهد «ملك» على ما أدعيه، ذلك أننا لم نشهد استنفارا عربيا مماثلا لمواجهة سلسلة الجرائم والاجتياحات التى قامت بها إسرائيل بحق الفلسطينيين طوال العقود الماضية، لكننا وجدنا أن الأمر اختلف تماما فى اليمن. إذ ظهرت النخوة وتسارعت خطى الاستنفار وتشكل تحالف الدفاع عن الشرعية، وتمت تعبئة الأمة العربية بحكامها وشعوبها لكى تبادر إلى التصدى للتمدد الإيرانى فى الجزيرة العربية. صحيح أن القضية الفلسطينية ذكرت فى كلمات الزعماء العرب التى ألقيت فى الجلسة الافتتاحية لقمة شرم الشيخ، لكن أغلب الإشارات كانت من قبيل رفع العتب وبعضها ورد فى ذيل التحديات التى تواجه الأمة. لست أبرئ إيران من الإسهام فى تدهور الأوضاع فى اليمن، لأننى أزعم أنها ارتكبت أخطاء جسيمة أوصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. وهو ما أشرت إليه أكثر من مرة منذ استولى الحوثيون على صنعاء فى ٢١ سبتمبر الماضى، وكررت استخدام مصطلح أن الإيرانيين ضمن الذين «يتمددون فى فراغنا» (أحدث ما نشر لى فى هذا الصدد كان فى ١٩ مارس الحالى تحت نفس العنوان) إلا أن انتقاد إيران فى موقفها من الحوثيين واليمن لا ينبغى أن يكون ذريعة لإحداث انقلاب فى الرؤية الاستراتيجية بحيث نغض الطرف عن التهديد الذى تمثله إسرائيل لمجمل الأمن القومى العربى، وننصب إيران بدلا منها عدوا استراتيجيا للأمة. ذلك أن الإيرانيين إذا كانوا مخطئين فالإسرائيليون مجرمون. وحساب الأولين وعتابهم واجب وخصام وردع الآخرين أوجب. غدا بإن الله نتحدث عن التباسات عاصفة الحزم. * نقلًا عن الشروق المصرية