في هذا المكان كتبت في 27 أغسطس (آب) 2014، مقالا بعنوان «قوة موحدة للانتشار السريع»؛ ومنذ أسبوعين كتبت مقالا آخر في 18 مارس (آذار) 2015 بعنوان «الاستراتيجية العليا مرة أخرى»، وانتهيت في المقالين إلى أن إنشاء قوة عسكرية عربية لإدارة الحرب ضد الإرهاب يمكن أن يكون من «السيناريوهات المطروحة» على الدول العربية لمواجهة الحالة البائسة في المنطقة العربية منذ نشوب ما عرف باسم «الربيع العربي». هذه الحالة، أيا ما كان لها أو عليها، فإنها في النهاية أصابت الدول العربية بمرض «نقص المناعة» الذي جعلها في النهاية جاهزة للتفكك والانهيار. ولم تكن المسألة في الأول والآخر مجرد ضياع دولة هنا أو هناك كما جرى للصومال مثلا، وإنما صارت مرضا معديا يمكنه أن يصيب حتى أكثر الدول العربية تماسكا. ببساطة أصبحنا في مواجهة حالة كلاسيكية من التهديد الشامل للأمن القومي العربي؛ ليس في مواجهة عدو خارجي مثل إسرائيل هذه المرة، وإنما كان المرض نابعا من الداخل، وهدفه انهيار الدولة العربية ذاتها واستبدالها بحالة من الفوضى والعنف والطائفية وزوال المؤسسات أو ضياعها. لم يكن في تصوري حينما كتبت هذا المقال وذاك، أنه لن يمر أسبوع فقط إلا ونجد قوة عربية متكاملة الأركان تخوض حربا شاملة في اليمن، من أجل استعادة الدولة اليمنية وليس قيادتها الشرعية فقط. وللحق فقد أصابني خبر بدء العمليات العسكرية السعودية في الساعات الأولى من صباح الخميس الماضي ببعض من المفاجأة. ولم يكن ذلك لأن المملكة العربية السعودية غير قادرة على مواجهة الموقف، أو لأنه لا يوجد لديها الحزم الكافي لشن عمليات بهذا القدر من الاتساع، لأن هناك سوابق للفعل السعودي الحازم كما حدث في البحرين، التي صارت خطا أحمر لا يجوز عبوره؛ وإنما لأنني تصورت اللحظة الملائمة للقرار كانت ساعة دخول الحوثيين إلى صنعاء إيذانا بتدمير الدولة اليمنية، ومن ثم التهديد المباشر للمملكة. ولكن بعضا من التواضع ضروري لمعرفة الفارق بين الكاتب والدولة، حيث يكتب الأول غير مقيد بقيود الإمكانيات والاستعدادات؛ أما الثانية فإن الأمر عندها يكون مصحوبا بعمليات عسكرية معقدة، وتنسيق بين عشرة من الحلفاء، والحصول على القدر الكافي من الاستخبارات والمعلومات، والتأكد من أن النظام الدولي لن يكون معارضا، أو على الأقل سوف يكون محايدا؛ وساعتها فإن الجدول الزمني يكون مختلفا. وأمر مهم لا يقل عن كل ما سبق أهمية هو أن الحرب في اليمن هي توجه نحو مسرح عمليات مختلف في حرب شاملة ضد الدولة العربية توجد لها مسارح عمليات مختلفة، لا بد من النظر لها قبل اتخاذ القرار. وأخيرا وليس آخرا، فإنه كما أن الحرب هي امتداد للسياسة بوسائل أخرى، فإن السياسة هي امتداد للعنف بوسائل أخرى، ومن ثم فإن إدارة علاقات إقليمية ودولية في زمن الحرب لا تقل أهمية وحرجا عن إدارة العمليات العسكرية ذاتها. إنها الحرب إذن في مسرح آخر يضاف إلى مسارح العراق والشام وسيناء وليبيا، وأداته قوات عسكرية من عشر دول تتحمل المملكة فيها عبء القيادة. وهدف الحرب الأول هو استعادة الدولة اليمنية مرة أخرى، لأنه دون التدخل العسكري فإن الغزو الحوثي للسلطة كان يعني حربا أهلية مستعرة لسنوات قادمة. ولما كانت عودة الشرعية هي حجر الزاوية في بناء مؤسسات الدولة فإن رجوع الرئيس اليمني إلى صنعاء هو نقطة البداية للدولة وليس نهايتها. هو الشرط الضروري لعملية حوار وتفاوض بين القوى اليمنية المختلفة لكي تقرر شكل الدولة التي تريدها حرة من الطائفية والإرهاب والتطرف. والهدف الثاني التأكيد على الرسالة التي سبق إرسالها إلى طهران بأن البحرين خط أحمر، فكذلك الحال مع اليمن، وفي الحقيقة مع كل دولة عربية أخرى. فالحقيقة هي أنه لم يكن ممكنا تجاهل تصريحات إيرانية تتحدث عن بغداد باعتبارها عاصمة الإمبراطورية الفارسية، أو أن دخول الحوثيين إلى صنعاء كان يعني الدخول إلى العاصمة العربية الرابعة بعد بغداد ودمشق وبيروت. كان ذلك نوعا من الصلف الذي لا يمكن تحمله، لأنه يحتوي على ادعاء ومحاولات لاختبار للقوى لم يكن مقبولا. الهدف الثالث تضمن رسالة إلى الولايات المتحدة والعالم الغربي عامة، بأن العرب قادرون على اتخاذ قرارات صعبة في ما يتعلق بالأمن الإقليمي والدولي. فكما جرى في أوروبا إبان محاربة الفاشية والنازية، فإن ما يجري الآن في اليمن هو جزء من سلسلة متتابعة من التحركات السياسية والجماهيرية والعسكرية التي واجهت «الفاشية الدينية»، سواء أخذت أردية السنة في «داعش» و«القاعدة» و«الإخوان المسلمين»؛ أو اتخذت أردية الطائفية الشيعية كما هو الحال مع حكم «البعث» في دمشق أو حزب الله في بيروت أو الحوثيين في صنعاء. الحلف العربي الذي نراه الآن في اليمن جرى تكوينه حينما وقف الشعب المصري في وجه «الإخوان»، ووقفت المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت، ومن بعدها الأردن والمغرب، وراء مصر في أزمتها ساعة المواجهة مع «الإخوان»، واستمر حتى وجدناه في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي. هذا الحلف ذاته هو الذي يشارك في عمليات دحر «داعش»، وخلافته «الإسلامية» المزعومة بين العراق وسوريا. والآن مع القمة العربية الأخيرة، فإن التحالف العربي أصبح أمرا واقعا لا يمكن لا للولايات المتحدة ولا باقي القوى الدولية الأخرى أن تتجاهله. وبالمقارنة مع الحلف العربي/ الدولي الذي تكون من أجل تحرير الكويت عام 1991، فإن الحلف الحالي أكثر تشابكا وتعقيدا وصلابة أيضا. هذه المرة فإن الولايات المتحدة ليست قائدة ولا هي التي تقرر، وإنما بالكاد تقدم عونا مخابراتيا ولوجيستيا. وبهذه المناسبة فلعله من المعروف أن واشنطن هي الأخرى، تتلقى عونا عربيا في المجالين، سواء في هذه الحرب أو في حروب أخرى. بقيت أمور كثيرة ينبغي التنبه لها حتى تصل جميع الرسائل لكل من يهمهم الأمر. أولها أن المعركة العسكرية يجب أن تصحبها معركة دبلوماسية لاستصدار قرار من مجلس الأمن، فحالة الحوثيين واضحة لا شك فيها كمحاولة لتدمير دولة عضو في الأمم المتحدة. وثانيها أنها معركة إعلامية يكون فيها كسب القلوب والعقول لا يقل أهمية عن كسب المعارك. ورغم أن ساحة الحرب هي منطقة الشرق الأوسط كلها، فإن الساحة اليمنية هي مجالها الأول، فلا بد للشعب اليمني أن يعرف أن المعركة الجارية هدفها هو عودة الدولة اليمنية مرة أخرى إلى الحياة، وإعطاء الشعب اليمني فرصته دون ترويع وإرهاب في اختيار حكامه ونظامه السياسي. *نقلا عن "الشرق الأوسط"