لا شك أن الجولة الآسيوية التي بدأها مؤخراً الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي وتشمل باكستان والهند والصين تمثل تحركاً في غاية الأهمية للدبلوماسية السعودية، ومن ثم تصب في مصلحة الأمن الجماعي الخليجي والعربي بما للمملكة الشقيقة من ثقل هائل ودور رائد في قيادة المنطقة الخليجية والعربية.
لا تحتاج المملكة العربية السعودية للبراهيم ودلائل لإثبات مكانتها وثقلها الاستراتيجي اقليمياً ودولياً، فهذه من بديهيات السياسة وحقائق العلاقات الدولية، ولكن أي تحرك خارجي للمملكة يضيف أهمية نوعية جديدة لدور المملكة سواء بحكم ما لولي العهد السعودي من دور وتأثير كبير، أو بحكم ما تحمله أجندة الجولة نفسها من موضوعات وتفاهمات واتفاقات استراتيجية تعزز دور المملكة وتصب في سلة تعزيز هذا الدور وتطويره ليصبح أكثر فاعلية وتأثيراً على المستوى الدولي.
فبالنسبة لزيارة ولي العهد السعودي إلى باكستان، تبدو الزيارة نفسها مهمة للغاية في ضوء اعتبارات عدة أولها أنها تمثل تحركاً سعودياً مهما لإعادة التأكيد على ثوابت العلاقات التاريخية بين البلدين اللذين تربطهما شراكة استراتيجية قوية منذ سنوات وعقود مضت، حيث تأتي الزيارة في ظل تولي رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان السلطة في البلاد، بعد فترة طويلة من تداول السلطة بين شخصيات باكستانية تاريخية عرفت بعلاقاتها القوية التقليدية مع دول مجلس التعاون، وتشير المؤشرات إلى أن رئيس الوزراء الجديد الذي يتمتع بشعبية كبيرة في بلاده يدرك جيداً أهمية الحفاظ على علاقات الشراكة الاستراتيجية مع دول مجلس التعاون والعمل على تطوير هذه الشراكة وتنميتها بما يصب في مصلحة تحقيق خططه وبرنامجه السياسي الذي حظي بثقة الناخبين الباكستانيين، وهذا ما تدركه بذكاء الدبلوماسية السعودية، التي يحسب لها حسن التقدير ومواصلة الدعم والمساعدة الاقتصادية والمالية لباكستان عقب انتخاب عمران خان، حين كانت تدور في أذهان المراقبين والمحللين تساؤلات كثيرة حول مسار العلاقات السعودية ـ الباكستانية في المرحلة المقبلة رغم أن الشواهد كانت تؤكد استمرار علاقات التحالف والشراكة في ظل قيام عمران خان بزيارتين إلى المملكة منذ انتخابه العام الماضي.
هناك جزئية تتعلق بضخامة الاتفاقات الثنائية التي وقعها ولي العهد السعودي مع باكستان، وهي اتفاقات تؤكد جدية النوايا السعودية في الرهان على باكستان كحليف استراتيجي تاريخي لا غنى عنه بالنسبة للمملكة العربية السعودية، كما يعكس مؤسسية الدبلوماسية السعودية التي لا تراهن على أشخاص بل على ترسيخ العلاقات مع دول وشعوب، وهذه الرسالة مهمة للغاية في تقوية سمعة المملكة كطرف دولي مسؤول يسهم بدور فاعل ومؤثر في منظومة العلاقات والتحالفات الدولية.
بالنسبة لزيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى الهند، فهي لا تقل أهمية من الناحية الاستراتيجية عن زيارته إلى باكستان، بحكم أهمية الدولتين من المنظور الاستراتيجي للمملكة، التي لا بد لها من بناء علاقات متوازنة مع الأطراف والقوى الإقليمية المؤثرة، والهند باتت قوة صاعدة دولياً، سواء على المستوى الاقتصادي أو التنموي، كما أن وتيرة التطور الاقتصادي ولاسيما في مجال تكنولوجيا المعلومات، تجعل منها شريكاً حيوياً للغاية للمملكة التي تسابق الزمن أجل اللحاق بالتطورات التي يشهدها العالم في مجالات الاقتصاد الرقمي وبناء مجتمع المعرفة والرهان على إعادة إنتاج وابتكار مكامن القوة السعودية بالتركيز على مقومات القوة الناعمة وإعادة تعريف دور المملكة اقليمياً ودولياً بالاعتماد على مهارات الأجيال السعودية الجديدة من الشباب القادر على رسيم صورة نمطية جديدة للمملكة في العالم، في مسيرة تطور يقودها الأمير الشاب، الذي يحظى بدعم والتفاف شعبي غير مسبوق.
في المحطة الصينية من الجولة الاسيوية المهمة لولي العهد السعودي، هناك رسائل كثيرة تحملها هذه المحطة تحديداً انطلاقاً من قوة وثقل طرفي العلاقة، المملكة العربية السعودية وجمهورية الصين الشعبية، فالزيارة تعكس رهان سعودي قوي على فرضية التوجه شرقاً التي يمكن أن تتحول إلى استراتيجية في السياسة الخارجية السعودية في حال استمرت التوجهات الغربية التي تصدر بين الفينة الأخرى إشارات مناكفة تضر بالعلاقات السعودية مع العواصم الغربية الكبرى، لاسيما أن الصين تمتلك أهمية استثنائية بالنسبة للاقتصاد السعودي سواء من كونها المشترى الرئيسي للنفط السعودي، أو من حيث مكانة الصين الاقتصادية بشكل عام.
في ظل هذا التوجه الآسيوي الطابع، تكتسي الدبلوماسية السعودية برداء وبديل جديد يوفر لها مزيد من حرية الحركة وهامش المناورة الحيوي، الذي يمثل بالنسبة لها ورقة ضغط قوية في إدارة العلاقات مع الحلفاء الأساسيين في الغرب، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأمريكية، لاسيما أن القوى الاسيوية مثل الصين تمتلك ميزة نوعية مهمة تتمثل في عدم التدخل في شؤون الدول الأخرى، ما يضفي عليها كثير من الجاذبية والقبول الذي تفتقر إليه السياسات الغربية بسبب إصرارها على الزج بأمور ثانوية في إدارة العلاقات مع الحلفاء الرئيسيين.