(1-6)
إن التحولات الاستراتيجية الحالية المتزايدة حول منطقة البحر الاحمر، والمتميزه بموقعها الاستراتيجي المهم والحيوي في السنوات القليلة الماضية، تتركز حول تدويل منطقة البحر الأحمر بعيداً عن دولة المطلة علية، واعادة رسم خارطة جديدة من التحالفات الدولية في منطقة الشرق الأوسط بما يحقق المصالح الدولية وبعيداً عن مضيق هرمز الذي طالما كان السلاح الذي تلوح إيران بإغلاقه في وجه التجارة الدولية وبالخصوص امدادات النفط الدولية.
ولقد استعادت منطقة البحر الأحمر مكانتها تدريجاً وصارت ساحة للصراعات الإقليمية والعالمية بين الدول المطلة علية وكذلك من الإمارات وإيران وتركيا وقطر والصين وروسيا وفرنسا وامريكا وحتى اليابان كل يسعى الى ترسيخ نفوذهم الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط. وكانت اولويات البلدان المطلة على البحر الاحمر هو إبعاد النفوذ الإيراني عن اليمن وكذلك عن تواجده في القرن الأفريقي الذي اكتسب أيضاً أهمية استراتيجية في الوقت الحاضر، وكذلك محاولة تقليص النفوذ التركي وإبعاده عن السودان وبالتحديد وجوده المتزايد في جزيرة سواكن السودانية ذات الموقع الأستراتيجي على البحر الأحمر وكذلك في الصومال.
وتتميز منطقة البحر الاحمر بإتصاله بالبحر الابيض المتوسط من خلال قناة السويس المصرية في شماله، وبجنوبه مضيق باب المندب اليمني، وتطل على البحر الأحمرالمملكة العربية السعودية واليمن (شرقًا)، وإريتريا (غربًا وجنوبًا)، والسودان (غربًا)، ومصر (شمالًا وغربًا)، والأردن وفلسطين (شمالًا)، وجيبوتي والصومال (جنوبًا).
وفي سلسلة من المقالات سنسلط الضؤ على قضية أمن البحر الأحمر وأهميتة وأولويات الاجندات الدولية والإقليمية والخارطة الجديدة التي بدأت تتشكل بين تلك التحالفات الدولية، بدءأً من التحديات التي يشهدها مدخل البحر الاحمر الجنوبي، وخصوصاً استمرار الصراع في اليمن، وكذلك تغيير شكل العلاقات والتحالفات بين دول القرن الإفريقي والتواجد الدولي في جيبوتي واريتيريا، وكذلك التوجه السياسي الجديد والانفتاح على دول الجوار الذي تتبعه إثيوبيا.
ومن الناحية الشمالية فالمنطقة كذلك تواجة صراعات وتوترات وتغيرًا في خريطة التحالفات بين دولها، فالصراع في سوريا لازال يشهد تطورات حادة، والنزاعات الفلسطينية-الإسرائيلية في إزدياد والأردن في توتر مع جيرانها، ومايجري من تطورات سياسية في السودان تؤكد جميعها أن منطقة البحر الأحمر تواجه تحولات جيوسياسية مهمة جداً على الصعيدين المحلي والدولي، وتشكل استراتيجية جديدة وخريطة تتبلور وترتب التوازنات بين القوى الدولية والأقليمية في منطقة البحر الاحمر. هذه التحولات السياسية الهائلة تطرح عديد من الأسئلة حول طبيعة التحالفات العالمية والأقليمية المحتملة، وكيف يمكن أن تؤثر هذه الترتيبات في تشكيل خريطة منطقة الشرق الأوسط الجيو سياسية في بداية الربع الثاني من هذا القرن، وماالذي يمكن أن تتأثر به السياسات الداخلية لدول المنطقة، والتي نرى بوادرها في السودان، وبالتالي إستشرافا لمستقبل الأمن القومي لدول منطقة الشرق الأوسط والكيفية التي على ضؤها يمكن الاستعداد لها وبما يحقق الأهداف ومصالح شعوب المنطقة.
والمقال الاول سيسلط الضؤ على الاهمية الجيوسياسية للبحر الأحمر، ويتبعه سلسلة من المقالات تركز على أولويات الاجندات الدولية والإقليمية والخارطة الجديدة التي بدأت تتشكل بين تلك التحالفات الدولية وإمكانية ما تؤثرة هذه الترتيبات في تشكيل خريطة منطقة الشرق الأوسط الجيو سياسية المستقبلية.
الاهمية الجيوسياسية المتزايدة لمنطقة البحر الأحمر
1. قناة السويس
لاشك بأن أهمية البحر الاحمر كانت منذ القدم، ولكن بلغت ذروتها بعد الغزو الفرنسي لمصر ورغبة الفرنسيون في بناء قناة تسيطر عليها فرنسا لتشكيل عوائق تجارية للبريطانيين الذين يعبرون الجزء الجنوبي من أفريقيا،، وفي عام 1858م تم إنشاء شركة قناة السويس العالمية للسفن والتي منحت الحق في بدء بناء القناة وتشغيلها لمدة 99 عاماً، وتم حفر وبناء قناة السويس وافتتحت رسمياً عام 1869م، وتختصر القناة التي يبلغ طولها 192 كيلومتراً، زمن الرحلة بين آسيا وأوروبا بنحو 15 يوماً في المتوسط.
وظلت قناة السويس تحت السيطرة الفرنسية الى أن تم تأميمها عام 1956م، وتشغيلها من قبل هيئة قناة السويس المصرية،ولكن تم اغلاقها للملاحة بين عامي و1956م وعام 1957م، ثم أغلقت لمدة ثماني سنوات بين عامي1967م واستمر حتى عام 1975م وتم تشغيلها عام 1975م عندما تم الاتفاق بين مصر وإسرائيل على وقف إطلاق النار الثاني.
ولقد تعاظم حجم التجارة البحرية بين 1870 و1900 مرتين وفي ازدياد بلغ مئات الأضعاف، فوفقاً لبيانات لمحللين ووكالات الأنباء تنقل القناة حالياً نحو 12% من حجم التجارة الدولية ويمر من خلاله خمسة ملايين طن من النفط يوميا، ونحو 10% من تجارة الغاز الطبيعي المسال في العالم. وفي عام 2014م، اطلق مشروعاً لتنمية محور قناة السويس يتضمن شق قناة جديدة موازية وفي منتصف عام 2015، تم افتتاح تفريعة قناة السويس.
ومن الاهمية بمكان ذكر مضيق تير وهو الجزء الصالح للملاحة بين البحر الأحمر والدول المطلة على خليج العقبة، وكانت جزيرة تيران تحت السيادة المصرية، بموجب اتفاقية عام 1949م، وبذا فشاطئ جزيرة تيران تابع لإقليم مصر ومضيقها ايضاً تابع لسيادتها.وبعد عام 2017، أصبحت جزيرة تيران من إقليم المملكة العربية السعودية وبالتالي اصبح مضيق تيران ممراً دولياً ولايخضع لأي سيادة اقليمية كما كان في السابق.
2. باب المندب
وفي المدخل الجنوبي للبحر الاحمر مضيق باب المندب وهو الممرالذي نشأ منذ أوائل الزمن نتيجة تباعد أفريقيا عن آسيا بالحركة التصدعيه القارية الذي كوّن البحر الأحمر في أواخر الحقبة الجيولوجي الثالث.
والمسافة بين ضفتي المضيق من رأس منهالي في الجهة الآسيوية إلى رأس سيان على الساحل الإفريقي تبلغ حوالي 30 كم تقريباً، وتفصل جزيرة بريم (مَيّون) اليمنية المضيق إلى قناتين شرقية بعرض 3 كم وعمق 30م وغربية بعرض 25 كم وعمقه يصل إلى 310 م، مما يسمح لشتى السفن وناقلات النفط بعبور الممر بيسر على محورين متعاكسين متباعدين بالاضافة الى وجود مجموعة، كما يوجد جزر الصغيرة تسمى الأشقاء السبعة، وحركة المد فيه إلى نحو المتر.
وتستمد أهمية باب المندب من قناة السويس. فلقد تحول ممر باب المندب إلى أهم الممرات والمعابر على الطريق البحرية بين العالم الأوربي ودول البحر المتوسط، ودول المحيط الهندي وشرقي أفريقيا بعد شق قناة السويس. ولقد ازدادت أهميته مع ازدياد أهمية إمدادات نفط الخليج العربي. حيث يقدر عدد السفن وناقلات النفط العملاقة التي تمر فيه في الاتجاهين، بأكثر من سبعة وخمسون قطعة يومياً.
ومنذ اشهر قليلة ماضية تناقلت وكالات الأنباء العالمية بأن مجموعة من دول آسيا مثل روسيا والهند وإيران يبحثون طرق وبدائل لممر قناة السويس من خلال إطلاق ممر للنقل الدولي بين الشمال والجنوب بطول 7200 كيلومتر، وسيشمل كلا من السكك الحديدية والنقل المائي، بين ميناء بندر عباس الإيراني على ساحل الخليج، ثم يجري شحنها إلى بندر انزلي على ساحل بحر قزوين، وبعد ذلك تنقل عن طريق البحر إلى أستراخان بروسيا، ومنها إلى أوروبا بالسكك الحديدية، وتزعم ايران يأنه من المفترض أن يقلل هذا الممر المخصص للنقل الدولي، من وقت وتكلفة نقل البضائع بنسبة 30- 40 في المائة مقارنة مع قناة السويس،وستصل البضائع من مومباي (الهند) إلى موسكو عبر "ممر النقل الشمالي الجنوبي" في غضون 20 يوما، في حين يقدر حجم الشحن السنوي بواسطة هذا الطريق الجديد بنحو 20 إلى 30 مليون طن. ولكن تلك الخطط لن ترى النور وسيبقى البحر الأحمر من خلال باب المندب وقناة السويس الممر الآمن سياسياً والأوفر إقتصادياً على مر السنين القادمة.
وفي المقال التالي سنتطرق الى مايتشكل حالياً من خارطة منطقة البحر الأحمر الاستراتيجية الدولية وحقوق ومصالح الدول الرئيسية المطلة على البحر الأحمر: السعودية ومصر والأردن والسودان واليمن وما امكانية الحفاظ على حقوقها السيادية الكاملة والفعلية على ادارتها لمياهها الإقليمية التي تضمن سيطرتها الإقليمية على البحر الأحمر.
* جامعة أكسفورد
rashed.abanamay@oxcis.ac.uk