وقف جندي عراقي أمام جدارية لصدام حسين، أخرج مسدسه بنفس مشحونة فصوب فوهته نحو وجه قائده، ليبصق رصاصات الغضب على من كان رمزا للهزائم والانكسارات التي عاشها العراق حقبة طويلة من الزمن.
المشهد كان في جنوب العراق، في مدينة البصرة، في ساحة السعد التي كانت تعد من آلاف الأماكن التي يعشق صدام أن ينصب فيها تماثيله وصوره بغزارة حتى صار لكل مواطن صورة وتمثال...حدث بعد عودة جنود النظام مشيا على الأقدام من الحدود الكويتية، وهم يجترون مرارة الهزيمة مع نهاية حرب الخليج الثانية سنة 1991م، لقد كانوا أشباحا بهياكل البشر جراء العذاب والتعب، فانتعشت في قلوبهم ثورة الغضب على وضع جهنمي عاشته بلاد الرافدين بعدما حكمها نظام البعث.
حادثة البصرة شكلت شرارة لاندلاع انتفاضة عارمة في مناطق الجنوب، كان وقودها التقسيم الطائفي الذي عاشته البلاد بعد التفاف الشيعة حول الملالي والمرجعيات مقابل القهر والاستبداد الذي مارسه أزلام النظام، وبذلك فرصاصة هذا الجندي الغاضب أعلنت جموح الناس واندفاعهم إلى المعسكرات والمؤسسات الحكومية في كل المدن الجنوبية، فتم السيطرة على كل رموز السلطة البعثية، وطرد كل أتباع صدام، مع قتل ما تيسر قتله من الحزبيين والعسكر الذين تمسكوا بولائهم لنظام بغداد.
في شهر شعبان: البصرة، كربلاء، النجف وميسان، مدن جنوبية دانت بالولاء للانتفاضة الشعبانية قبل أن يمتد لهيبها إلى مناطق الشمال، فدامت فرحة الأهالي أسبوعين تقريبا قبل أن تكتسح الآلة الحربية والقمعية لصدام كل هذه المدن في سبيل إخماد الثورة، فجنود صدام اقتحموا المناطق المنتفضة بطريقة وحشية منقطعة النظير، مدججين بما تبقى من آلة حربية سحق جلها قبل أيام في معركة اسماها المهيب القائد صدام "أم المعارك" وكان الطيران المروحي - المستثنى الوحيد أن يطير في سماء العراق وفق اتفاق خيمة صفوان- سيد الموقف .
كان هجوم النظام على هذه المدن يشبه في وحشيته مآسي الحرب العالمية الثانية، فتم قتل وتذبيح الرجال وتشريد النساء، كما تم إعدام عوائل بأكملها لمجرد الشك في تأييد فرد منها لهذه الانتفاضة...تم ارتكاب مجازر فظيعة على أيدي المقربين من صدام، فرئيس الوزراء أشرف بنفسه على حفلات القتل والتعذيب، بينما قصد حسين كامل صهر صدام كربلاء بأكبر الكتائب من الحرس الجمهوري، وشن حربا قاسية على الأهالي بما فيهم المتخفين بمرقد الأمام الحسين، فقام بقصف الأضرحة والمساجد، وأمر جنوده بأخذ الثوار وأهاليهم بكل القسوة اللازمة...بل حتى النازحين الهاربين من همجية النظام لم يسلموا من التقتيل والملاحقة، ونذكر هنا العوائل النازحة من الجنوب في اتجاه الأهوار التي كانت متبوعة بانتقام جسده الحرس الجمهوري في تغيير مجرى نهري دجلة والفرات، مما تسبب في أقبح الكوارث البيئية والانسانية، مع التهجير القسري للسكان المحليين واعدام النازحين.
تفاصيل هذه الانتفاضة قاسية جدا، أكثر دموية مما يتوقع القارئ، بل حتى المشاهد الذي تابع اللقطات الفظيعة المتاحة آنذاك لا يستطيع تخيل المأساة الانسانية التي عاشها شيعة العراق في الجنوب من اهانة وتعذيب وقتل، في ظل أوضاع معيشية كانت في الأصل مهترئة وممزقة بفعل الحروب الرعناء التي أغرق صدام شعب العراق في براثنها العفنة.
إن الوحش المنهزم في حرب الخليج خرج بهمجية لرد كبريائه ولو على حساب مواطنيه، فكانت الكارثة.
اللجوء إلى عدو الأمس
قد تكون المفاجأة ان يلجأ أهل جنوب العراق إلى السعودية ! فمن هناك أخذت صواريخ السكود طريقها نحو مدن المملكة في اطار حرب جعلت مبادئ الجوار والأخوة في الدرك الأخير من التفكير، ثم إن الاختلاف المذهبي يزيد الأمر صعوبة وغرابة فالسعودية قلعة التسنن في العالم العربي.
ولكن هل للمضطر حق الاختيار !
لقد استقبلت الحدود السعودية اكثر من أربعين ألف مواطن عراقي من سكان الجنوب هاربين من جحيم الأوضاع السيئة إلى الأراضي السعودية!
اربعون الفا يجمعهم الهروب من جحيم العراق وان اختلفت خلفياتهم، فالإحصائيات تقول أن عددا منهم هم من أعضاء الجيش العراقي المتمردين على النظام، كما أن هناك فريقا من هؤلاء الجنود فروا من الأوضاع المعيشية السيئة دون أن يكون لهم أي دخل بالانتفاضة...الجزء الآخر هو من المواطنين الشيعة الذين شاركوا في الانتفاضة وهربوا من بطش النظام الذي كان يتعقبهم بالليل والنهار...أما الجزء المهم فهو يتشكل من عوائل وأفراد شيعة قصدوا اللجوء إلى المملكة كفرصة للتخلص من الوضع الاجتماعي الذي عاشوه تحت قيادة صدام وأتباعه منذ العقود السابقة.
كيف وصلوا؟ أو كيف نجحوا في الهرب من البطش والاستبداد؟ أو من قام بترحيلهم ومساعدتهم؟ هذه كلها أسئلة لا تعنينا الاجابة عنها في هذا الموضوع...لذلك لنركز على الوضع القائم بعد اخماد الانتفاضة ولجوء هؤلاء المواطنين العراقيين إلى المملكة العربية السعودية.
فعلى مشارف المناطق الحدودية كان مخيم رفحا يضم اكثر من اربعين الف عراقي بعد أيام قليلة من حرب كان من أهدافها تدمير المملكة العربية السعودية...هم اربعون ألف شيعي داخل مجتمع "سلفي" وفي توقيت كان التدافع الطائفي في أعلى ذروته !
فكيف تعاملت معهم السعودية التي طالما وصفت من طرف الأعداء بالتعصب المذهبي؟
لقد قامت المملكة بتجهيز هذه المخيمات بكل الوسائل الضرورية التي كان يفتقدها العراقيون في بلدهم الأم، إذ تم بناء بيوت مكيفة ومراكز صحية بما فيها من أقسام للعمليات وأخرى للطوارئ، ولم تنس التجهيزات قسما للنساء والولادة! ...تم بناء المدارس، المساجد، الملاعب والأسواق، وكل ما يحتاجه الانسان لممارسة حياته العادية بهدوء مع توفر كل الخدمات الضرورية...والأهم أيضا هو أن المواطن العراقي أخيرا سيعيش حياة آمنة بعد خوف.
ومن أهلها شاهد بالحق
يقول السيد أبو البنين الساعدي السجين السياسي السابق في سجون حزب البعث، والباحث الذي قام بتجهيز ملف كامل بكل الوثائق حول من يسمون في العراق ب "الرفحاويون"، وهم سكان مخيم رفحا....
حري بالذكر ان هذا الملف كان الهدف منه تبيان ان اهل مخيم رفحا لم يكونوا مستحقين للتعويض الذي كان يدفع لكل من تضرر من نظام البعث بعد الغزو الأمريكي للعراق، ولم يكن الدافع لأبو البنين شكر السعودية بكل تأكيد !
اكد الساعدي في أكثر من لقاء اعلامي في سنوات ما بعد البعث أن اهل مخيم رفحا كانوا يعيشون ظروفا جد ميسرة داخل الأراضي السعودية، هي ظروف كان يتمناها كل مواطن عراقي يبكي ندرة الحليب لابنه الوليد، بينما اهل مخيم رفحا يخطون ملاعب الكرة ببودرة الحليب ..
كما أكد الرجل أن الخدمات التي وفرتها المملكة لهؤلاء اللاجئين كانت فوق التصور، بداية بالرواتب الشهرية المنتظمة التي كانوا يتوصلون بها ليتم تحويل بعضها للداخل العراقي، وصولا إلى المؤن الغذائية من مواد وأطعمة جاهزة تصل إلى المخيم بشكل يومي ومستمر، وهنا ما علينا إلا أن نتصور ما تم سرده عن طلب كثير منهم أخذ مبالغ مالية مقابل التخلي عن الغذاء بعدما أصبح زائدا عن الحاجة الضرورية.
ليس الساعدي وحده من وصف حالة الرغد الذي عاشها إخوتنا العراقيين في المخيم، بل هناك تقارير اعلامية من قلب العراق، تحدثت عن الدور السعودي في تأمين الغذاء والدواء وكل المواد التموينية بالمجان، بل حتى المرافق الترفيهية للأطفال...وهنا نذكر أن كثيرا منهم اتم شعيرتي الحج والعمرة برعاية من الحكومة السعودية، مما ينفي صفة اللجوء عن المقيمين في المخيم، ويضفي عليهم صفة الإخوة في الدين والعروبة .
الصور والأشرطة المسربة من داخل المخيم تبرز حالة من الارتياح لدى المقيمين، توجوها بأعمال ترفيهية من ممارسات للأنشطة الرياضية في الملاعب المجهزة، وكذلك ممارسة طقوسهم الدينية في مساجد وحسينيات طليت جدرانها بصور الملالي والمرجعيات الدينية للشيعة! بل حتى الأنشطة الثقافية والفنية مارسوها دونا عن العراقيين في الداخل العراقي الذين كانوا يعلنون الجهاد للعثور على لقمة خبز جافة ابان الحصار على بلاد الرافدين، فالشعب العراقي كان يموت بالأمراض والأوبئة مع انعدام الأدوية في الصيدليات، بينما أهل المخيم كانوا يتمتعون بالاستشفاء المجاني والرعاية الصحية المتكاملة، مع توفير جميع الأدوية بالمجان من طرف الحكومة السعودية، بل تم فتح خطوط دائمة للربط بين أرقى المستشفيات في المملكة والمراكز الصحية في المخيم، وذلك لنقل الحالات المتعسرة أو التي تحتاج إلى المزيد من العناية والمراقبة.
كما أن المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان وشؤون اللاجئين كانت في زيارات متلاحقة مستمرة للمخيم لمتابعة ظروف العيش للمقيمين، وكانت كل التقارير ايجابية في وصف الخدمات المقدمة من طرف الحكومة السعودية، وهنا نستدعي تصريح المفوض السامي لشؤون اللاجئين لهيئة الأمم المتحدة "لورد لوبيز" الذي زار المخيم سنة 2003 حيث قال: إنه أفضل مخيم لاجئين في العالم، والخدمات المقدمة لسكانه رائعة... ليواصل مداعبا: إنه فندق سبع نجوم بالمقارنة مع المخيمات الأخرى في العالم.
من من السعوديين يهتم بالحديث عن مخيم رفحا ؟
الجواب: لا أحد...والسبب أن السعودية اعتادت العطاء دون الأخذ، هو عطاء متجرد من كل الحسابات الضيقة التي تبدو رحبة في أعين الآخرين، هو عطاء بعيد عن المن والتشهير، هو عطاء في سبيل الانسان والانسانية...وفي سبيل الأخوة الأغلى من أي اعتبارات مذهبية الانغماس فيها سيشتت أكثر ما سيجمع، ولطالما كانت السعودية ساعية للتجميع دونا عن أي تفريق.
فمن سيقر بذلك يا ترى؟
هذا هو قلب الموضوع ولبه، هناك مشكلة ما...في مكان ما، تجعل الاعتراف بالفضل للمملكة عامل نقص ويجعل النكران خير سبيل للندية، وبذلك تضيع الأفضال في النسيان، او هكذا يتعمدون ممارسة النسيان بسوء نية، أما حسن النوايا فهو ما ستستمر السعودية في بدله لتستمر حقلا معطاء للخير تزرعه سواعدها بشكل متواصل.