ما إن يستقر يقين أبناء هذه الأرض على انتمائهم إليها واستحقاقهم شرف هويتها العربية، حتى يخرج لهم، من حيث لا يتوقعون، من يجادلهم، عبر النقاش السياسى الملوث بنبرة طائفية، حول أصولهم وفروعهم، ويفرض عليهم أن يختاروا بين الهويات الدينية والسياسية التى تتداخل فيهم: هل انتماؤهم كيانى جغرافى، أم إنسانى تاريخى، أم مستقبلى مفتوح على العصر؟ هل اللبنانى فينيقى فعلا؟ وهل كان فى التاريخ وحده الفينيقى من أبناء هذا «الساحل السورى»؟! وهل المصرى فرعونى، مجرد متحدر من سلالة الفراعنة أم هو نتاج حقبات تاريخية تداخلت فيها «قوميات» و«أعراق» حتى صار ما صار عليه مع غلبة واضحة للإسلام كدين وللعربية كلغة تؤسس لهوية؟ وهل الفلسطينى كنعانى مقطوع الصلة بالفينيقى فى لبنان وسوريا وبالقبائل العربية فى البيداء الممتدة ما بين ساحل البحر الأحمر وعمق الجزيرة العربية، مرورا ببادية الشام التى تتضمن شرق الأردن وتخترق العراق وصولا إلى اليمن عبر الحجاز؟ وأين السريانى فى السورى والأشورى الكلدانى ثم الكردى فيه كما فى العراق، فضلا عن القبائل العربية التى جاءته قبل الفتح، ثم تدفقت عليه بعده؟ وهل الجزائرى والمغربى بأكثريتهما من البربر، وهل البربر غير العرب أم أنهم منهم فى الأصل، لا سيما إذا ما استذكرنا أن مشاهير فى الثورة والفكر والإبداع الثقافى وعلى امتداد القرنين الذين، كانوا من دعاة العروبة، بل ومن أعلامها، إنما يتحدرون من البربر؟! ثم أليس فى الليبى خليط من القبائل العربية والبربر والتبو؟! ••• بعد الأنساب والأعراق، جاءت الدعوات والحركات الفكرية السياسية، فى القرن الأخير، لتزيد الأمور تعقيدا: هل اللبنانى هو ابن جبل لبنان وحده، أم أن لبنان بجبله وسهوله وسواحله وطن واحد بهوية واحدة، عربية بالضرورة السياسية والواقع الجغرافي؟! وهل سوريا بالهوية السياسية الحالية هى بعض بلاد الشام التى مزقتها معاهدة سايكس بيكو إربا، عشية اندثار السلطنة العثمانية، فصارت دولا عدة بعضها لبنانى والبعض الآخر سورى والبعض الآخر الفلسطينى صار «إسرائيل» والبعض الرابع صار المملكة الأردنية الهاشمية وما تبقى من سوريا الطبيعية صار العراق؟! بمعنى آخر: من هم أبناء هذه الأقطار، التى كانت بعض أرض الخلافة العربية الإسلامية، ثم صارت ولايات فى الدولة الأموية أو الدولة العباسية أو الفاطمية قبل أن يأخذها المماليك ثم ترثها عنهم السلطنة العثمانية؟! ألم ينصهروا جميعا وعبر روابط التاريخ والجغرافيا والدين، واللغة بوصفها الوجدان ولسانه، على امتداد ألف وأربعمئة سنة، حتى باتوا أمة واحدة؟! وهل انوجدت أمم دول أخرى كالولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، ومن قبلها فرنسا وألمانيا وسائر جهات أوروبا، على قواعد أخرى غير التاريخ المشترك (وأحيانا بلا ماض، كالنموذج الأمريكى) واللغة والدين كعنصر مكوّن للأكثرية؟ وهل انفصال هذه الأقطار العربية بعضها عن بعض، والصراعات بينها على الحدود التى كثيرا ما أوصلت إلى حالة من القطيعة والمخاصمة تقارب الحرب، إلا واحدة من نتائج التدخل الأجنبى الذى رسم الخرائط وأقام الحدود السياسية التى قسمت القبيلة الواحدة والعائلة الواحدة إلى «مواطنين» فى أكثر من دولة؟! أين الحدود بين لبنان وسوريا؟ وبين سوريا والأردن الذى كان بعضها، وبين سوريا والعراق، والعراق والكويت، ومصر وليبيا، وليبيا وتونس، وتونس والجزائر، والجزائر والمغرب، وبين مصر والسودان، والسودان وليبيا... من قررها وفى أية ظروف وهل كان للناس فى تلك الأقطار جميعا رأيهم فى حدود الدول التى وُزعوا عليها بالأمر الأجنبى؟! ربما... ولكنه يتجدد الآن بحثا عن حدود جديدة بين مشاريع الدول التى يجرى الحديث حولها، فى ظل تفجر الأوضاع فى كل من سوريا والعراق، أساسا، فى المشرق، والسودان وليبيا فى الجانب الأفريقى... بينما تعلو أصوات قيادات فى أوساط البربر فى الجزائر تنادى بانفصالهم عن العرب فيها لتكون لهم «دولتهم»! فأما فى المشرق العربى فقد تجاوز الأمر الأحاديث إلى بروز مشاريع سياسية تحمل الشعار الدينى وتنادى بالخلافة فى دولة مبتدعة تجمع «العراق وبلاد الشام».. أو ليس هذا هو المضمون السياسى لدعوة «داعش»؟ ••• بالمقابل تعلو أصوات منادية بإعادة تقسيم اليمن على قاعدة طائفية قبلية، لا سيما بعد «انتفاضة الحوثيين»، وارتفاع أصوات «الجنوبيين» الذى جدد الحنين إلى ماضى «السلطنات» عبر تقسيم المقسم واستقلال المحافظات والأقاليم فى «دول» بحيث يصير اليمن عشر دول أو أكثر. أما الوجه الآخر للصورة فيعكس تعاظم القلق عند القادة والمسئولين عن الأمن فى دول الجزيرة والخليج، التى يجمعها «اتحاد» ما زالت تتعثر ولادته الكاملة كجسم سياسى اقتصادى تشد كيانه روابط القربى والمصالح، وتباعد بين أطرافه الطموحات الشخصية المرتكزة إلى قواعد قبلية وعشائرية. تكفى مجريات الحوادث فى البحرين لتجسم حجم هذا القلق مقابل الشعور بالأمان الذى كان يفترض أن ينشره مجلس التعاون الخليجى، الذى يضم فى عضويته بعض أغنى دول العالم، لا سيما إذا قورن حجم الثروة بأعداد «المواطنين» فيها. ومعروف أن بين أسباب تفاقم الخلاف بين قطر والبحرين، على سبيل المثال، أن كلا من السلطتين فى هاتين الدولتين الصغيرتين جدا تتهم الأخرى بأنها «تشترى» مواطنين من بدو سوريا والعراق، بينما «تستأجر» تحت عنوان التدريب، بعض ضباط الجيش الأردنى.. وكثيرا ما وصلت حدود «الشراء» أو «الاستئجار» إلى بعض أنحاء الباكستان وأفغانستان، بوهم أن جامع الدين هو مصدر الحماية! ••• إلى أين من هنا؟ وكيف ومتى ينتهى الاضطراب السياسى الأمنى فى العديد من الأقطار العربية، والذى يهدد فى حالات عديدة الكيانات السياسية القائمة... وبعضها بدأ يفقد، بالفعل، صورة «الدولة»، وبالتحديد كجامع وموحد لمختلف فئات الشعب على قاعدة توافق وطنى بين مسلماته البديهية وحدة الهوية، كعنوان لوحدة المصير فى عالم مضطرب؟ المؤكد أن ملايين العرب، فى أقطار عديدة من بلادهم الواسعة، يعيشون قلقا ممضا على المستقبل، وهم يموتون ألف مرة فى اليوم نتيجة الخوف على حياتهم ومصير أجيالهم الآتية فى ظل هواجس الحرب الأهلية التى تهب رياحها عاتية على بلادهم منذرة بسوء المصير، ولا أسباب للحماية وتجاوز العاصفة. هل هو التاريخ يعيد نفسه، وينساق العرب مرغمين بقوة العجز إلى مستعمريهم القدامى طالبين منهم العودة بجيوش احتلالهم، وإعادة رسم خرائط جديدة لبلادهم؟ إن تجربة المواجهة مع «داعش» فى العراق أساسا، وقبله ومعه فى سوريا، تنذر بوجود مشروع لإعادة صياغة هذين الكيانين السياسيين... خصوصا مع زهو الأكراد ومفاخرتهم بأنهم لوحدهم ومن دون الدولة العراقية، بل ومن خارجها إلى حد كبير قد استطاعوا الانتصار على «داعش». وقد بات اسم «داعش» مرجعية سياسية لدعوات انفصالية كثيرة تتردد فى أكثر من قطر عربى. ولا ينفع أن يزعم أى مسئول عربى أن بلاده بعيدة أو محصنة أو محمية جدا بثروتها والمستفيدين الكبار فى العالم من هذه الثروة؟ من هو المعنى بحماية المستقبل العربى الذى ينذر الحاضر بأن يعيد هذه الأمة قرنا أو يزيد إلى الخلف... حتى لا نقول: إلى الاندثار؟ * من جريدة الشروق المصرية