2015-10-10 

رسالة خاصة إلى شيعتنا

محمد المزيني

لعل من أكثر القصائد التي اجْتُلِبت من الذاكرة، ساعة انطلقت فعاليات ما سمي «الربيع العربي»، هي قصيدة الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي (لحن الخلود)، التي يقول في مطلعها: إذا الشـــعبُ يومًــا أراد الحيــاة *** فــلا بــدّ أن يســتجيب القــدرْ تلك التي ظلت محفورةً في ذاكرتنا حتى انفجرت كعبوة ناسفة؛ لتجسد واقعاً جلياً عما تنوء به قلوب الشعوب العربية المندحرة ردحاً من الزمن أمام سياسات دولها القمعية، فرحاً وطرباً بـ«الربيع العربي»، الذي ينسج للغد حلماً مسكوناً بالتطلع إلى الحرية والعدالة والمساواة، ثم تراجعت مخذولة بعدما خرجت اللعبة من أيدي الشعوب، وتسلمتها أيدٍ طائفيةٍ عفيةٍ قذرةٍ؛ لتبدد كل الأحلام الشعبوية، وتصيبها بالخذلان المبين، وتنكس راياتها إلى غير رجعة، والأمر من ذلك والأدهى هو نجاح الدعوات الطائفية والجماعات الإرهابية في تمرير أجندتها في عالم يمور في حيص بيص، ويغرق في وحل التفرقة والتشتت، بين أبناء الشعب الواحد، بعدما زرع الخوف بينهم، وفرغ عقولهم وأرواحهم من كل قيم السلم المشمولة بتراثهم الحقيقي. لم يفِ ذلك الطود العظيم من المؤلفات والكتب، التي منها ما اختلق الأزمة وظل ينفخ فيها حتى تورمت وتدحرجت ككتلة ثلج، وباتت كلقيط يبحث في جيناته عن نسب حقيقي له، بدءاً من تعريفها وانتهاءً بصياغات فلسفية قد لا يفهم منها شيئاً إلا في غرز الحشاشين، ويوم وقعت الكارثة تطايرت الأوراق، أو بالأحرى احترقت، خبت معها الأصوات المفكرة، وتلاشت الوجوه من منصات المحاضرات، وجفت الأقلام، فلم تعد ذات علاقة حميمة مع الورق، منهم من تدحرج مع كرة النار إلى فوهة الطائفية فاحترق بها ومعها، ومنهم من أصبح يقاتل في صفوفها، فأين أبناء الأمس الذين كانوا يفلسفون الأزمة على مستوى جلساتهم؟ وإذ بهم يتشكلون مع الأزمة الحقيقة. ومع هذا سأتحدث عما يخصنا نحن أبناء هذا الوطن، الذي لا يزال في ريعان الشباب، والنسبة الأعلى من شعبة من الشباب، ومن صفاته أن الله قد من عليه بثروات فاضت بمسحة من الثراء على شعبه، وهو يعِدُ بكثير لمن تعثرت بهم سبل الوصول إلى لقمة عيش طرية، لأسباب منها التحصيل العلمي أو العجز البدني، بأن يشمله هذا النعيم بلا تفرقة طائفية أو عرقية، وإن بدا ثمة قصور فهذا من طبيعة الأشياء، يمكن علاجه من خلال إدارة ناجحة، إلا القصور في الوعي والاضطراب في المفاهيم، الذي يعتري عقول بعض مثقفينا أو من يتمسحون بجلبات الثقافة من كتاب «تويتر» و«فيسبوك» من الموبوئين ببعض الثقافات الفاسدة، التي لا تشبه سوى المعلبات المخزنة في مستودعات خربة، فهذا يحتاج إلى مكاشفة وتعرية للذين لا يمكن أن يروا هذا الوطن إلا في خانة الفشل والتبعية إلى أميركا أو إسرائيل، أن ينسبونا إلى آفة الطائفية المشتعلة في أكثر من موقع في العالم العربي، ولاسيما بعدما علَقَت السعودية مرغمة في اليمن؛ لكنس أذيال التمدد الإيراني وأذرعه في المنطقة؛ ولكي لا تدخل أيضاً في حرب طويلة مع القوى الكبرى التي تمثلها. ولأننا ندرك عظم أي حرب وويلاتها، وما تجره على الشعوب من نكسات، ما لم تكن مقننة ومدروسة، لذلك ما يمكن القيام به اليوم قد لا نقدر عليه غداً، فيما لو استفحل الأمر، وسنكون نحن الخاسرين لا محالة، إلا أننا لا نقبل بأي حال أن ننجرف إلى حمأة الاستخذاء والتهويل ونحن في عين العاصفة، وهذا تحديداً ما يريده العدو اليوم، مستخدماً في ذلك قوى الجذب الطائفي، مستجلباً مع غيرهم من بلداء التفكير ضعفاء العاطفة المستسلمين للتخويف، ليزرعها بين أبناء الشعب الواحد، فالهزيمة قد تحيق بنا من خلال الجبهة الداخلية، ولنكن أكثر صراحةً وشفافيةً وأقول: واقعياً الشعب السعودي مقسم إلى قبائل شتى، وفصيلين دينين من شيعة وسنة، لن أتحدث عن القبائل في هذا المضمار -تحديداً-، إذ إنهم قد اصطفوا مع قيادتهم بلا مساومة، بل عن هذين الفصيلين سأتحدث وأسأل: هل يريدان أن تتشعب هذه الخلافات بينهما، وتبتر كل العلاقات التي بدت أكثر حميمية أخيراً عما سبق، وبدأ الشعب يستشعر معنى الشراكة في بناء وطن واحد، متناسياً تلك الفروقات السياسية الممذهبة بغباء، على رغم عبثيات وضلالات ثلة من شبابنا من الفصيلين، وانسياقهم إلى دعوات العنف التي كلفت الدولة بمؤسساتها ثمناً لمكافحتها والقضاء عليها؟ إلا أن ما يبعث على الاستغراب ذلك الوجع الذي رأيناه بادياً على مقالات بعضنا؛ جراء تعامل الأمن مع جهلاء إخواننا الشيعة المارقين عن حوزة الوطن. هذا التعاطف لا يشبه في حقيقته إلا مسرحية تراجيدية فاشلة، وهي تستبطن بين طياتها معنى آخر لا يخدم أصحاب القضية؛ إذ تضعهم في خانة الأقلية المظلومة، وتكريس هذه الرؤية سيوقعهم في مغبة التحريض الطائفي للمعادين لهم، وهذا ما حدث فعلاً بالهجوم الإرهابي الغادر على الأبرياء في حسينية الأحساء قبل ستة أشهر. لأقترب منكم بصدق: ماذا حدث عندما قُبض على الشيخ نمر النمر لأسباب معلومة؟ ألم ترتفع عقيرة المولولين الضاربين على جيوبهم حزناً وفراقاً عليه، في المقابل ألم يُقبَض على كثير من مشايخ وعلماء السنة على خلفية تهم تحريضية وفكرية كثيرة، فلم تقم قيامة طلابهم ومريديهم، الذين آثروا الصمت على الجلبة؛ حفاظاً على لحمة هذا الوطن. أنا لا أقدم هذه الوقائع للمفاضلة بين الفصيلين، بل للدلالة على أن التعصب للمذهب وتقديمه على القيم الوطنية لهو نكسة ورزية من عيار ثقيل، كما أنني لا أُرغم أحداً على تبني سياسات معينة؛ فالناس يختلفون في الفهم والتقدير، إن ما أقصده تمرير أجندة الأعداء من خلالنا، هل تريدون أن نستعيد ماذا فعل إرهابيو السنة في الوطن قبل أعوام؟ وقد استخدمهم الغرباء عبوات ناسفة؛ لتدميره، هل يود متطرفو الشيعة اليوم أن يمثلوا الدور ذاته بتمرير أجندة خارجية مشابهة للهدف نفسه؟ علينا منذ اليوم أن ندرك أننا في وطن واحد، نتقاسم همومه ومآسيه وأفراحه وأتراحه معاً، ونفهم أن الأخوية الوطنية تتلاشى أمام المذهب، كما علينا أن نكون أكثر صرامة مع انتماءاتنا بلا فلسفة أو تحوير، فإما أن نكون للوطن ومع الوطن ننعم بمقدراته ومكنوناته، أو مع ابن لادن أو البغدادي أو الخميني وروحاني وحسن نصر الله، نعلق صورهم في بيوتنا ونتبارك بأقوالهم وكلماتهم، كالتعاويذ صباح مساء، وهذه لعمري خيانة عظمى، خيانة لله الذي نبذ الفرقة أولاً وللوطن الذي نستظل سماءه ونتفيأ ظلال أمنه ونعيمه، فلا يجب تمرير هذه الغوغائية المذهبية لتقويض صرحنا الوطني الآمن، ولكل منا الحق في أن يعبد الله بالطريقة التي يراها، وألا يشرك معه أحداً من عباده الذين يؤزونه على الفتنة أزّاً. *نقلا عن "الحياة"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه