بوصفي مسؤولا في جهة إدارية لا وجود لها، تم تكليفي بالتعامل مع ملف زعبلّة. كانت المهمة سهلة، فقد كان جائعا والمطلوب مني أن أساعده في التخلص من الجوع. وبالكشف عليه اكتشفت أنه ليس جائعا فقط، هو جائع ومريض وفقير أيضا. رفعت الأمر للإدارة المعنية وطلبت أن نبدأ في علاجه من كل أمراضه في وقت واحد. لكن المراجع العليا طلبت أن نعالجه من الجوع فقط. قررت أن أبدأ معه بالسمك المشوي، غير أن رئيسي قال لي: «التزم الحكمة الصينية التي تقول: لا تعطه سمكة.. أعطه صنارة وعلمه صيد السمك». هكذا تم إنشاء الإدارة التعليمية لصيد السمك، وتم تخصيص ميزانية كبيرة لها، وبدأت في نشاطها بفصل واحد إلى أن يتم بناء بقية الفصول. التحق بهذه الإدارة كل الزعبلات الجائعين ليتعلموا صيد السمك، وإلى أن يتقنوا الصيد رصدت الهيئة العامة لتغذيتهم ميزانية تكفي لإطعامهم لحما ودجاجا وخضراوات. استعانت الإدارة بخبير ياباني لإجراء كشف على البحيرة الكبيرة، فاكتشف أنه لا توجد بها سمكة واحدة بسبب التلوث الذي أصابها نتيجة لأن المصانع المقامة على شواطئها تلقي فيها بمخلفاتها. غير أن العلماء التابعين للإدارة شككوا في أقواله، وجاءوا بعشرة كيلوغرامات من البوري قالوا إنهم اصطادوها من البحيرة. قال لي الرجل: «لأول مرة في حياتي أشاهد معجزة.. من المستحيل أن يوجد في هذه البحيرة كائن حي». قال ذلك وخرج من مكتبي إلى المطار عائدا لبلاده. أنا أكره الفشل، ولذلك صممت على مواصلة طريقي مهما كانت العقبات، تقدمت بطلب إلى الإدارة لتخصيص عدة ملايين من الجنيهات لتنظيف البحيرة فاستجابوا لطلبي. وبالفعل تمكنت في ثلاثة شهور فقط من الانتهاء من إقامة الإدارة العامة لتنظيف البحيرة الكبرى. كان من المستحيل أن تقوم إدارة تنظيف البحيرة بعملها في وجود مصانع مصرة على إلقاء مخلفاتها في البحيرة. كان من المستحيل إرغام المصانع على الامتناع عن ذلك إلا بإصدار قانون يعاقب على تلويث البحيرة. فعملت على ذلك، وتمكنت من استصدار هذا القانون، ولكن للأسف عجزت الإدارة عن تنفيذه بعد أن صرخ مديرو هذه المصانع في الفضائيات والجرائد: «أمال عاوزينّا نرميها فين..؟». قرر رئيس الإدارة أن يزور المشروع، أنا واثق أنه سيقوم بفصلي من الخدمة عندما يكتشف أنني لم أعلم زعبلّة كيف يصيد السمك على الرغم من مرور سنوات على المشروع. فرّاش مكتبي همس في أذني: «ولا يهمك يا بيه.. ما تخافش.. رئيس الإدارة سيرى كل الزعبلات وهم يصطادون البوري من البحيرة». وحدث ذلك بالفعل، لا أعرف كيف تمكن ذلك الشيطان من تنفيذ ذلك. سعد رئيس الإدارة بما رآه وقال لي بابتسامة عريضة: «هل صدقت الآن ما قلته لك في البداية.. لا تعطه سمكة.. علمه صيد السمك». وبعد عدة أعوام ظهر السمك بالفعل في البحيرة بكميات قليلة جدا. وعند دراسة المصروفات اتضح أن صيد الكيلو الواحد يتكلف خمسين ألف جنيه، بينما هو يباع في الأسواق بثلاثين جنيها فقط. فما العمل؟ ولا حاجة.. من حق الشعب أن يأكل السمك مدعوما.. ووافقت وزارة المالية على الدعم المطلوب. ربنا يخلّي لنا الاشتراكية.