@abdullah_athe
أي مجتمع يحقق قفزات سريعة ويعيش حرق مراحل في ظروف استثنائية، قطعا ستكون تقديرات حدوث الأخطاء واردة في الجوانب السلوكية أو الفكرية. وحين يكون المجتمع (أي مجتمع) موصودا الباب أمامه عقودا طويلة تجاه كثير من المفاهيم الإنسانية أو الاجتماعية أو أنها تصله بصورة مشوهة نتيجة احتكار المشهد الثقافي من أيدولوجية معينة، ستكون تقديرات حدوث الأخطاء مرتفعة جدا، مقارنة بأي مجتمع آخر متصالح من قبل مع تلك المفاهيم أو متعايش معها.
هذا ربما بصورة عالية جدا ينطبق على المجتمع السعودي الذي حقق في العهد الحالي مكاسب عديدة، ليس المقام بصدد تناولها من ناحية اقتصادية وسياسية، بل من ناحية اجتماعية، تتركز في تعزيز الحقوق والتمكين والمساواة واتساع دائرة الخيارات الفردية تحت مظلة القوانين (والذوق العام).
من تلك المفاهيم التي نمت وتشكلت في التاريخ البشري مفهوم (الحرية) والتي يتفق التاريخ البشري على أنها (التحرر من القيود التي تكبل طاقات الإنسان وإنتاجه سواء كانت قيودا مادية أو قيودا معنوية), لكن بالقطع يختلف قبول ذلك التعريف والتعايش معه من مجتمع إلى مجتمع وفقا لخلفياته الدينية أو الأيدبولوجية ووفقا لقوة صناع الرأي المستقلين في تلك المجتمعات. ولا شك أن سيطرة التطرف الديني في العالم الإسلامي فترة زمنية طويلة، أدى إلى تشوه هذا المفهوم، أما بدرجة تصويره متعارضا مع الدين أو لدرجة تحريفه وفقا للمنطلقات الإيدولوجية أو بصورة توسيعه لدرجة تخرجه عن المألوف الاجتماعي وبالتالي يصبح مرفوضا أو حتى ممقوتا يعدون المنادين به خارجين عن القيم الاجتماعية أو الدينية.
في مجلس الشورى
قبل أيام وجهت عضو في مجلس الشورى اتهامات صريحة لعدد من الجهات الحكومية بأنها تمارس (عنصرية) ضد السيدات المنقبات بحيث لا يتم دعوتهن للمشاركة في المؤتمرات والاجتماعات خارج البلاد، وهي لاشك تملك الحرية في اختيار النقاب، والذي يجمع العلماء بأنه ليس إلزاميا في الدين بل ما يجب هو (الحجاب)، وهي أيضا تملك حق الرأي في مجلس الشورى، لكن ذلك بالقطع لا يعني مشروعية رأيها، بل الحق في قوله فحسب استنادا إلى أن السيدة الفاضلة العضو توسع نطاق مفهوم (الحرية) في مسار غير موات بل غير صحيح.
لا أحد يجرؤ ونحن في دولة غطاءها الدين الإسلامي وفي مجتمع محافظ أن يجبر النساء على عدم ارتداء النقاب، وفي المقابل استنادا إلى الدين والأنظمة لا يمكن اعتبار النقاب إلزاميا أو تصويره بأنه إلزاميا كما ساد في سنوات طويلة نتجية احتكار الرأي من مرجعية دينية واحدة.
وعودة للسيدة عضو الشورى، مع الإشارة إلى أن مجلس الشورى يضم 30 سيدة (16 سيدة منقبة و14 سيدة غير منقبة)، نقول إن ولي الأمر الذي يعين مجلس الشورى لا يضع اشتراطا في هذا الجانب، وبالتالي فأن الأعضاء من السيدات يتمتعن بالخيار بالتساوي، هذا أولا. وثانيا فاتهام السيدة العضو غير مثبة بالدليل المادي: هل تملك دليلا قطعيا بأن الدعوة للمؤتمرات تشترط عدم النقاب، وهل تملك دليلا قطعيا بأن الدعوات أقل كفاءة وبأن الدعوة تمت فقط لكشف الوجه.
ثالثا، وكون النقاب غير مرجح فقهيا، فأن المسؤول من الطبيعي بل من المفترض أن يميل للخيارات التي تتفق مع الإجماع، خاصة إذا كانت هذه المؤتمرات أو الاجتماعات تراعي إبراز الشخصية وتعزز الحقوق وتظهر التسامح مع المدارس الفقهية الأخرى.
في الحالة التي يأتي نقاشها في محاولة الوصول إلى المفهوم الدقيق للحرية، مع كامل التقدير للسيدة عضو الشورى ولخياراتها، هناك سوء فهم من البعض - ولا أقصد الدكتورة العضو - في اختيار المخارج المناسبة عند الحديث عن الحرية، وهنا ربما الأمثلة الحية تقرب الصورة بدرجة أعلى، في ه هذا الجانب تحديدا علينا أن نتفهم أن الزي ورغم كونه حرية إلا أن لكل مقام أو منشأة أو مناسبة قيوده أو اشتراطاته أو ما يسمى (Dress code)، فلا يمكن تجاهل ذلك أو إلغاء قيود الزي تحت باب الحرية، لأنه قد يكون عكسيا وقد يعطي الحق في زي يتعارض حتى مع السيدة عضو الشورى وربما مع غالبية المجتمع.
إذا كنا نطالب بحرية الزي (وفقا للمفهوم المشوه للحرية) فأن ذلك سيتعارض مع لائحة الذوق العام التي تنص في مادتها الرابعة على التالي: لا يجوز الظهور في مكان عام بزي أو لباس غير محتشم أو ارتداء زي أو لباس يحمل صوراً أو أشكالاً أو علامات أو عبارات تسئ إلى الذوق العام.
في المقابل وبنفس الدرجة حول القيود فأنه لا يمكن لأي وزير حضور جلسات مجلس الوزراء بدون (البشت)، فهل ذلك يعني قيدا للحرية أم قيودا للزي وليس للحرية نفسها. واستنادا إلى ذلك فأن من حق المسؤول عن أي دعوة لمؤتمر أو اجتماع أن يسن قيواد للزي بشرط ألا تتعارض مع النظام ولا مع لائحة الذوق العام، وهو بذلك لا يحد من الحريات الشخصية ولا يقيدها وفقا لمزاجه أو خلفيته بل يضع اشتراطات تناسب المكان والزمان تحت مظلة النظام والقوانين.
عليه، فأن كثير من الأخطاء في طرح الأفكار، أما نتيجة عدم وضوح عديد من المفاهيم لصاحب الفكرة أو في ظل محاولته تطويع تلك المفاهيم لخلفيته الفكرية، رغم أن ذلك لا يمكن حدوثه خاصة في المفاهيم التي تعززت تعريفا وتطبيقا في التاريخ البشري، ولا يمكن إيجاد منتج جديد منها يناسب مجتمع أو فرد بعينه.
ربما من المناسب استحضار مثل أخر لغرض تقريب الصورة، في حين سمحت الأمانات والبلديات للفنادق والمطاعم بتشغيل الموسيقى (على أن يكون بالطبع ذلك اختيارا للمنشأ نفسها)، راجت مطبوعات تفسر الحرية بل تشوهها وفقا لخلفياته الفكرية، فهي تقدم إرشادات تستهدف وقف الموسيقى في تلك الأماكن بحيث تتحول الحرية من حق اجتماعي إلى حق فردي. من تلك النصائح - على سبيل تقريب الصورة - أنه يحق لمرتاد المطعم أن يطلب من إغلاق الموسيقى لأنه بذلك يباشر حريته كما يباشر المطعم حريته في تشغيلها. الحرية الدقيقة هنا ليست بهذه الصورة، لأن الفرد هنا يريد أن يخضع خيارات المجتمع لخياره، في حين أن الحرية الحقيقة أن تقدم تنازل عن جزء من خياراتك من أجل حرية المجتمع.
على سبيل الدقة، ماذا لو أن شخصا متدينا بدرجة عالية ولديه تحسس من النساء غير المحجبات نزل في مطار واشنطن، هل يحق له الطلب من تلك النساء عدم التعامل معه وطلب سيدات محجبات أو منقبات لإنهاء إجراءات دخوله، باعتباره يمارس حريته الشخصية في بلد يحمي الحريات؟!
الخلاصة:
لا يمكن لأي فرد أو مجتمع أن يأتي بمفاهيم راسخة في التاريخ البشري، ثم يطوعها وفقا للخلفيات الفكرية والإيدولوجية للأفراد ثم يقول إن ذلك هو المفهوم الراسخ في تاريخ الشرية. يمكن لأي مجتمع أو فرد أن يمارس ذلك، لكن بالقطع لا يمكنه اعتبار ذلك متطابق مع المفهوم الإنساني السائد، ربما يجد له مصطلحا أو تعريفا مستقلا أو جديدا أو مبتكرا.. ذلك كما يحدث الآن في سياق التعامل مع مفهوم (الحرية).