2015-10-10 

سيرة تُدمِع

سمير عطالله

في شبابه، كان غونتر غراس يكتب خطب المستشار الألماني فيلي برانت. أشهر ثنائي سياسي - أدبي في ألمانيا بعد الحرب. ذهب برانت إلى فرصوفيا ليركع اعتذارًا مما حدث لبولندا على أيدي النازيين ثم السوفيات. أما غونتر غراس فأمضى حياته يكفر في أعماله الروائية عن زمن الجمر والرماد والموت الذي رفعت بلاده رايته خلال الحرب العالمية الثانية. سوف نقرأ دراسات واستعادات كثيرة عن حياة غراس. كان نبأ وفاته أول من أمس في أخبار العالم، قبل أي خبر سياسي آخر، وذلك لأن حياته كانت حدثًا سياسيًا عميقًا في الغرب. لم يهرب بنفسه من آثار الأشباح التي خرجت من جثث الأوروبيين لكي تسكن في ذاكرتهم وضمائرهم، بل اختار أن يواجهها بالقلم والنحت والرسم، من أجل ألاّ تكرر أوروبا الفظاعة الكبرى مرة ثالثة. ومن هذا المنطلق كان موقفه الأخلاقي من إسرائيل والفلسطينيين كما من جميع القضايا الإنسانية الأخرى. بالنسبة إلي كان أمتع ما قرأت له سيرته الذاتية في «تقشير البصلة». وقد يبدو العنوان مبتذلاً بالنسبة إلى كاتب في ثرائه الأدبي واللغوي، لكن هذا ما أراد أن يقوله عن حياته: كل قشرة أخرى تسيل الدموع في عينيه. سوف يرافقه شقاء الحرب طوال حياته. ولد في دانزيغ، التي هي الآن غدانسك البولندية. وكان والده ووالدته يملكان دكانًا في المدينة. وبعد هزيمة الألمان ووصول السوفيات، راح الجنود ينفذون أوامر ستالين غير الرسمية: اغتصبوا كل ألمانية تقع أيديكم عليها. كان الدكان تحت المنزل. ومن أجل أن تحمي أمه شقيقته من الاغتصاب، كانت تقدم نفسها للجنود في الطابق الأرضي لكي لا يفتشوا عن مزيد من النساء في الطابق العلوي. هل أدركنا الآن لماذا هذا العنوان المباشر والمبتذل للسيرة الذاتية لأحد كتاب نوبل (1999)؟ كان غراس عنوان المجد الأدبي لبلاد غوته في القرن الماضي. فبينما عاشت أوروبا بريق الحركة الأدبية في فرنسا وبريطانيا، وبينما لمعت أسماء عملاقة في جنوب أميركا وشمالها، بقي الأدب الألماني منحسرًا إلاّ من بضعة أسماء ظل غراس أهمها حتى غيابه. وهذا يفسر كيف سارع جميع أركان الدولة إلى نعيه إلى العالم بدءًا برئيس الجمهورية، وهو منصب معنوي مهمته الكبرى جمع الألمان حول رموزهم وروح بلادهم. عام 1972 جاء وزير خارجية ألمانيا الغربية فالتر شيل إلى بيروت فأجريت معه مقابلة صحافية. وعام 1974 أصبح رئيسًا للجمهورية. وبينما أنا عائد من الأمم المتحدة، خطر لي أن أمر في بون وأجرب حظي في طلب مقابلة. ومن الحظ أن سكرتيره الصحافي كان الملحق الصحافي السابق في بيروت، فون باشهيلبل. أعطيت المقابلة القصيرة وهدية موقعة من الرئيس: أسطوانة تضم مجموعة أغانيه للأطفال. هذا أهم ما يمكن أن يفعله الرئيس للألمان: يوفر على الأهل البحث عن أغانٍ لأطفالهم قبل النوم، وعلى معلمات الروضة الناعسات في الصباح ترديد الأغاني الفرحة: صباح الخير أيها الراين الأخضر الضفاف. * نقلا عن "الشرق الأوسط"

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه