"من دون اكتراث بغرابة الأمر، اختار قادة الديكتاتورية العسكرية في الأورغواي، أن يطلقوا على السجن الرئيسي للبلاد اسم (حرية)، وفي ذلك السجن المسمّى (حرية)، حظروا على المساجين أن يرسموا، أو يتلقوا رسوما لفراشاتٍ، أو نجومٍ أو أزواجٍ، أو طيور. أحد السجناء، وهو معلم مدرسة، اسمه ديداثكو بيري، كان قد تم اعتقاله، لأن "لديه أفكارا أيديولوجية خطيرة"، تلقى، ذات يوم أحد، زيارة من ابنته ميلاي، البالغة خمس سنوات، التي أحضرت معها لوحة رسمتها، أخيراً، لكن رسمها تعرض للمنع، لأنه كان يحتوي على عصافير، وقامت رقابة السجن بتمزيق لوحتها على مدخل السجن. في الأحد التالي، أحضرت ميلاي رسما لا يحتوي إلا على أشجار، وبما أن الأشجار لم تكن محظورة، سمح الحرس بدخول الرسم إلى السجن، هذه المرة. وعندما رآه الأب سأل ابنته: هذه الفاكهة الملونة الموجودة على الشجر ما هي؟ برتقال أم ليمون أم تفاح، ما هي؟ حاولت ابنته أن تسكته، وبعد أن تلفتت حولها، قالت له: ألا ترى يا بابا أنها عيون؟ إنها عيون الطيور التي أحضرتها لك، مختبئة بين الأشجار". كانت هذه واحدة من آلاف الوقائع التي قام كاتب الأوروغواي الكبير، إدواردو غاليانو، بتوثيقها في كتبه، التي اختار أن يستخدم فيها جميعا شكل الحكايات القصيرة، لكي يحفظ ذاكرة أميركا اللاتينية، ويوثق التاريخ الشعبي لكفاحها المرير ضد الاحتلال، ثم الاستبداد، ويوثق، أيضاً، عدم توقفها عن إنتاج البهجة والدهشة والمعرفة، وقد كان من حسن حظ القارئ العربي أن تصل إليه بعض كتب غاليانو، بجهد رائع للمترجم الكبير، صالح علماني، ثم المترجم الكبير، أسامة إسبر، كان منها (أفواه الزمن ـ كتاب المعانقات ـ كلمات متجولة ـ مرايا أو ما يشبه تاريخا للعالم ـ أبناء الأيام أو تقويم للتاريخ البشري ـ كرة القدم بين الشمس والظل)، بالإضافة إلى أهم هذه الكتب، وهو ثلاثية (ذاكرة النار) التي تتكون من ثلاثة أجزاء: (سفر التكوين ـ الوجوه والأقنعة ـ قرن الريح)، وهو عمل ضخم وملهم، يتفوق في أهميته وجماله على عمل أشهر لغاليانو، صدر سنة 1973، هو كتاب (الشرايين المفتوحة لأمريكا اللاتينية) ـ ترجمه عام 98 القديران أحمد حسان وبشير السباعي، وقد تضاعفت شهرته، حين أهداه هوغو شافيز، عام 2008، إلى باراك أوباما، خلال قمة لرؤساء الأميركيتين، لتذكيره بما وثقه غاليانو من جرائم الحكومات الأمريكية المتعاقبة في حق شعوب أميركا اللاتينية، بدعمها الحكومات العسكرية المتواطئة معها على نهب ثروات القارة، وبتآمرها على إسقاط الحكومات المناوئة للمصالح الأميركية. وعلى الرغم من أهمية ما في كتاب (الشرايين المفتوحة) من معلومات قيمة، وكونه سباقا في كتابة (التاريخ الشعبي) التي قدم فيها بعد ذلك المؤرخ الأميركي، هوارد زن، كتاباً شديد الأهمية، إلا أن غاليانو لم يكن يخفي عدم رضاه عن أسلوب الكتاب، وكان يتمنى كثيراً لو أتيحت له إعادة كتابته من جديد، وهو ما ستتفهمه، حين تقرأ ثلاثية (ذاكرة النار) وما تلاها من كتب، ظل غاليانو يطور فيها قدرته على الجمع بين التوثيق والإمتاع، في الوقت الذي قام فيه بتوسيع زاوية رؤيته، لتشمل العالم كله، فتصبح كتبه حارسة لذاكرة المقهورين في العالم أجمع، وليكون لمقهوري عالمنا العربي فيها نصيب لم يتوفر لهم، في الكثير من كتب التاريخ الرسمية المحشوة بأكاذيب، يتواصل فرضها على الأجيال المتعاقبة. كانت "حصص التاريخ الكئيبة" هي التي ألهمت غاليانو فكرة صنع تاريخ مضاد، يقاوم ذلك "الماضي الميت الأجوف الأخرس الذي علمونا عنه بطريقةٍ، جعلتنا نستكين للحاضر، بضمائر جافة، لنقبل التاريخ الذي صُنع سابقا، لقد توقف التاريخ المسكين عن التنفس، تمت خيانته في النصوص الأكاديمية، كُذِب عليه في المدارس، أُغرق بالتواريخ، سجنوه في المتاحف، ودفنوه تحت أكاليل الزهر ووراء تماثيل برونزية ورخام تذكاري"، وحين حررت فضيلة الشك غاليانو، في شبابه، من سطوة ذلك التاريخ المكذوب، فاكتشف أن التاريخ الرسمي لأميركا اللاتينية "يقتصر على استعراض عسكري لطغاةٍ يرتدون بدلات عسكرية، لم تستخدم من قبل"، قرر أن "يساهم في إنقاذ الذاكرة المخطوفة لأرضه المُحتقرة والمحبوبة، وأن يتحدث معها ويتقاسم معها أسرارها"، ولولا أنه فعل، لظلت أميركا اللاتينية، بالنسبة لنا، مرتبطة فحسب بالواقعية السحرية التي أبدعها أدباؤها، قبل أن نكتشف، من خلال كتبه، أن واقعها الفعلي كان أشد عبثاً ودموية ومرارة، تماما مثل واقعنا العربي الذي ما زال ينتظر من أبنائه أن يستلهموا تجربة غاليانو، فيستبسلوا في تحرير ذاكرته المخطوفة من سطوة التاريخ الرسمي المكذوب. كم كُنّا بحاجة لمزيد من كتب إدواردو غاليانو، ألف رحمة ونور عليه. * نقلا عن "العربي الجديد"