2020-03-31 

فنجان قهوة لم يكتمل مع #عبدالحليم_خدام

سلطان السعد القحطاني

في نهار آخر يوم من ديسمبر عام  2014، كانت قطرات المطر تتساقط بحنو وئيد، على زجاج نافذة السيارة التي كانت تقلني إلى منزل يقيم فيه نائب الرئيس السوري الأسبق، عبد الحليم خدام، الذي انشق عن نظام كان ركنه الركين، وقرر باختياره الشخصي، الركون إلى منفاه الباريسي، دون أن يختار الصمت، أو الخروج من ساحة المعركة.

 

كان ذلك الحوار بالنسبة لي، فرصة لتسجيل شهادة أهم شخصية غادرت مركب القيادة السوري، منذ اندلاع الثورة، وهي شهادة تستحق أن تبقى وثيقة للتاريخ، ثم يبقى الحكم على الرجل، ومرحلته، ودنياه، في ذمة المعاصرين، والباحثين عن الحق، والحقيقة.

 

 

حوار عبدالحليم خدام مع سلطان السعد

https://youtu.be/U6GAPXATxng

 

 

في الساعة الرابعة والنصف كنت أمام عتبة الدار، برفقة سائق أختار السيّد خدّام أن يبعثه إلي، بعد أن رفض إعطائي عنوان المنزل، بحجّة أن سائقه الشخصي أكثر دراية بالمكان. ربما يكون هذا هو السبب الحقيقي، وقد لا يكون، فهذا الرجل لديه ما يخشاه، ويحق له!

 

لاحظت وجود حراسة رسمية أمام مقر سكنه. مدرّعتين عسكريتين، على أقل تقدير. أما حرس الباب الداخلي فقد كانا ضابطين فرنسيين شديدا العبوس، تفرّس أحدهما في وجهي مليّا، قبل أن يطلب منّي جواز السفر. وبسرعة، التقط صورة للجواز من جهاز يحمله، ثم سمح لي بالدخول.

 

قادني أحدهم إلى غرفة جلوس هادئة، كبيرة الحجم، أستطيع أن أرى من خلال زجاج نوافذها، جزءاً من حديقة منزلية أنيقة، وكأنها بعض من نفحات دمشق الغاربة في شرقنا الغريب!

 

بعد لحظات انتظار ليست بالطويلة، دخل الغرفة، التي كانت تحوي لوحات فنيّة أنيقة، رجل نحيل الجسم، يتحرك بهدوء شديد، وصعوبة ظاهرة. يكاد لا يتكلم معي إلا همساً. رجل عبارة عن صوت آت من حقبة سحيقة، يرتدي جاكيتا بنياً، وكنزة صوفية من اللون ذاته.

 

ودار بيننا حوار امتد على مدار ثلاث ساعات، لم نتوقف خلاله إلا لشرب كأسين من الماء، وبالكاد مسست فنجان القهوة السوداء الذي حرص على أن أتناوله، بلطف بالغ.

 

كنا في هذا البيت الجميل الذي كان مملوكاً لسعد الحريري، إبن صديقه رفيق الحريري، رئيس الوزراء اللبناني الراحل، الذي لا يزال خدّام يتهم بشار الأسد تحديداً، بأنه من خطط لاغتياله، برفقة أخيه ماهر، ثم جاء عملاء حزب الله ونفذوا الباقي!

 

كانت الأزمة السورية على أشدّها، ولا يزال بشار الأسد ومعارضيه يتقاتلون، ولقد تم هدم الكثير من بنيان الدولة السورية، ونظامها، والرئيس الأسد يرفض الاستسلام، رغم الرفض الدولي.

 

وجدت خدّام هادئاً. ليس براغبٍ في أي منصب سياسي، لكن رغبته أن تعود سوريا كما كانت. وهذا أمر صعب. من السهول الدخول في حرب، لكن الخروج منها لم يعد قرارك.

 

قال لي أن الأزمة كان يمكن حلها لو تنازل بشار قليلاً، لكنه اختار أن يحرق البلد.

 

قلت له، فيما كانت المدبّرة المنزلية، تضع فنجاناً من القهوة أمامي، وهو يحاول أن يساعدها بوضعه على الطاولة بحركة مهذبة:

 

"ما هو مستقبل سوريا... أنت أم رفعت الأسد أم آل طلاس؟".

 

ضحك حتى استيقظ الثعلب في داخل الشيخ الكبير،  ثم قال بابتسامة:

 

"إذا كان لجدتي حظ في حكم سوريا فسيكون لهؤلاء حظ...

رفعت الأسد شخص وضيع ومصطفى طلاس معتوه، وكان حافظ الأسد يشتكي من حبهم للنساء...

أما مناف طلاس فموظف صغير عند بشار وهروبه كان خوفاً على حياته من السوريين لا أكثر".

 

وكان من الطبيعي أن يدخل الحوار في عقد المقارنات بين الأب والأبن. حافظ الذي عرفه خدّام منذ سنوات طويلة، وبشار الذي عمل معه، ولم يحمل الأثنين لبعضهما مشاعر لائقة.

 

يقول خدّام بهدوء:

 

"حافظ الأسد كان أكثر ذكاء، وأكثر قدرة على استيعاب التوازنات الدولية، أما بشار الأسد فهو مجنون، وهو وأخاه باسل، أساءا كثيراً لوالدهم".

 

بالحديث عن السعودية قال لي خدام أنه كان معجباً كثيراً بالملك فهد، ولا تزال لديه علاقات جيدة بالسعوديين، لكنه يستغرب الاهتمام بالحكومي برفعت الأسد.

 

روى لي كيف أنه ضحك ذات يوم وهو يرى رفعت الأسد يصلي صلاة العيد في مكة جوار الملك، مغلفاً برداء التقوى، والجميع يعرف أنه لا علاقة له بالدين، ولا بالصلاة!

 

دار حديث طويل مع السيد خدّام، وفي ختامه، أهداني كتابه "التحالف الإيراني السوري". هذا الكتاب أعتبره شخصيا واحداً من الوثائق المهمة التي تحكي قصة العلاقات السورية الإيرانية، وتحولها من تحالف إلى تبعية، وتروي فصولاً من العلاقة المعقدة بين الرياض وطهران، يغلفها تاريخ طويل من عدم الثقة.

 

كان عبدالحليم خدّام يرى في حافظ رجل دولة، وحليفا على قدم المساواة مع إيران، بينما بشار لم يكن سوى تابع صغير.

 

حملت كتاب خدام وأنا متوجه إلى فندقي، غير بعيد عن شارع النور والعطور، الشانزلزيه، وقد كانت احتفالات رأس السنة على الأبواب. كتل من الضوء تنساب على الأرض، وعناقيد ملونة، من الأضواء تغفو على رؤوس الأبنية الباريسية الأنيقة، وحركة فرح لا تهدأ.

 

وفي الليلة الأولى من عام جديد، غلبني الفضول، ولم أستطع تأجيل قراءة الكتاب أكثر. فقد كانت الأزمة السورية تصنع الأخبار، والأهم من ذلك أن العلاقات الخليجية السورية تأزمت أكثر، وأضاف عليها ملف العلاقات مع إيران ظلالا كئيبة، حتى غدت طهران طرفاً في الصراع، لا داعماً خفياً.

 

وشهادة خدّام، التي جائت عبر كتاب يجاوز الأربعمئة صفحة بقليل، تروي فصولاً من هذا التورط الإيراني، معززة بمحاضر الجلسات، وتفاصيل اللقاءات.

 

كان من بين نجوم تلك المرحلة السياسية الرئيس حافظ الأسد، والملك فهد، وكانت حكاية عربية مروعة، عن تحول ذلك البلد العربي، إلى غابة إيرانية شاحبة. كانت أحاديثنا بمثابة رثاء للياسمين الدمشقي، الذي ذهب إلى غير رجعة. 

 

 

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه