تخرج، وبشوت، ومسيرات، وضحكات، وعناق، وفرحة عائلية وشخصية، وصور «سيلفي» وجماعية، مناظر مبهجة نحضرها وندعى لها في مثل هذه الأيام من كل عام دراسي، فالجامعات تخرج، والكليات تزف شبابها للميدان، والمعاهد تودعهم متمنية لهم مستقبلاً مشرقاً. وتسود هذه الاحتفالات وهذه المشاعر في ملحقياتنا التعليمية الـ33 حول العالم، التي ترسل مبتعثيها من الجنسين للوطن بعد تخريجهم بتذكرة سفر ذات اتجاه واحد، وطي قيد نهائي بعد أن أنهوا مهماتهم وحصلوا على شهاداتهم. ولكن يبقى السؤال المزعج وهو ماذا بعد؟ أي ماذا بعد أن يخلع الخريجون رداء التخرج ويذهبون للبحث عن فرص العمل؟ وبمعنى آخر، هل نحن مستعدون لاستقبالهم وتفويجهم بسلاسة نحو أماكنهم الصحيحة في سوق العمل؟ الإجابة هي لا، ولا كبيرة ومزعجة بالتأكيد، وبعض التفاصيل في ما يأتي: أولاً: يلاحظ أن الجهاز الحكومي لا يهتم ولا يطرف له رمش وليس قلقاً بشأن التوظيف وكأن الموضوع لا يهمه وليس من مسؤولياته. وللمثال، فوزارة الشؤون البلدية والقروية - وبحسب تقرير الشورى - لديها 8500 وظيفة شاغرة، و15 ألف وظيفة مشغولة بأجانب («الرياض»، 17 مارس 2015). ومن تحت قبة الشورى أيضاً، قال وزير الخدمة المدنية السابق عبدالرحمن البراك قبل عامين إن «لدى الوزارة 130 ألف وظيفة شاغرة، وإن مسألة إشغالها تقف أمامها تحديات منها شح الكوادر، وحجز بعضها للترقيات» («الوطن»، 3 يونيو 2013). «الشورى» نفسه انتقد قبل أربعة أعوام وزارة الخدمة المدنية بأن هناك أكثر من 156 ألف وظيفة لدى الوزارة لم يتم إشغالها إطلاقاً، وتساءل: «لماذا كل هذا التأخر على رغم وجود أوامر ملكية تحث على توظيف السعوديين»؟ («المدينة»، 21 مارس 2011). وبالطبع من يقرأ مثل هذه الأخبار والتقارير يظن أن بين الأجهزة الحكومية وبين السعوديين عداوة فلا توظفهم، ولا تشعر أصلاً أنها مسؤولة عن توظيفهم. ومن لا تدعمه الواسطة والقرابة في جهات الحكومة فلا تذكرة عبور له، فالوظائف محجوزة للترقيات ولقريب سيتخرج بعد سنوات، أو ستظل بيضاء شاغرة من غير سوء. ثانياً: ويتعلق بالحكومة أيضاً وبوظائف أعضاء هيئة التدريس في الجامعات تحديداً، فإعلانات الوظائف ما هي إلا خطوة للرفض لعدم امتداد التخصص، أو لأن درجة البكالوريوس تقديرها جيد (على رغم أن الماجستير أو الدكتوراه تقديرها ممتاز)، والمبرر الصحيح هو أن توظيف السعودي سيمنع بدل الندرة وبدل التعليم الجامعي عن الأساتذة الحاليين. ولذا فإن إعلان الوظائف في صحفنا ليس أكثر من ترضية لوزارة الخدمة المدنية، يعقبها تذاكر السفر والفنادق لاستقطاب كل الألوان والألسن للتدريس عدا اللسان الوطني والبشرة الحنطية. وعلى رغم إيماني بأهمية التنوع في بيئة التعليم العالي، إلا أن هذا يجب ألا يكون سبباً لحرمان مبتعثينا من التوظيف، لاسيما من تخرج منهم من جامعات عريقة وكبيرة، بدلاً من استقطاب أساتذة لا تسمح وزارة التعليم أصلاً للسعودي للالتحاق بجامعاتهم التي تخرجوا منها أو عملوا فيها. ثالثاً: وهو خاص بالحكومة أيضاً، فمع كبر حجم الخريجين وتزايد أعداد طالبي العمل فإن التوجه هو لرفع سن التقاعد - وهو ما طالبت به مراراً مؤسسة التقاعد - وكذلك بقاء موظفين تجاوزا سن التقاعد في أماكنهم، وكأن البلد ليس فيها من الكفاءات من يسد غيابهم، ولا يعني ذلك إلا غياب حس المسؤولية لدى جهات الحكومة، وأنها ليست مسؤولة عن التوظيف ولا تريد أن تكون جزءاً من الحل. فيما يخص القطاع الخاص، فالأمر فيه تفصيل أيضاً: أولاً: القطاع الخاص الكبير كـ«أرامكو» و«سابك» والمصارف وشركات الاتصالات، مستوفية صورياً لشروط السعودة ونسبتها، ولكن ما زال هناك وظائف بالآلاف لدى تلك الجهات يمكن شغلها بمواطنين، ففتشوا في الدفاتر وستجدون. يضاف إلى ذلك أن هذه الشركات والمصارف لجأت لاستخدام طريقة الـOut sourcing، بحيث تستأجر مؤسسات صغيرة تقوم بأعمالها، وبالتالي توقفت عن خلق الوظائف، وتفتتت الأعمال بين شركات صغيرة يكفيها توظيف سعودي واحد أو اثنين (سعودة وهمية)، لتستقدم في مقابل ذلك ما تشاء من العمالة الأجنبية. ولا شك في أن العمل في «أرامكو» أو المصارف والشركات الكبيرة مطمع للشباب، ولكنهم حرموا منه بسبب عدم توسع هذه الجهات في التوظيف، واستبداله بعقود الباطن مع المؤسسات الصغيرة التي أضاعت دم السعودة بين قبائلها. ثانياً: أن كثيراً من جهود وزارة العمل تسير في الطريق الخطأ، فتوظيف الشباب بـ3 آلاف ريال في مهنة بائع أو سباك أو عامل مقاولات لن تنجح، وستبقى سعودة وهمية لا توظف عاطلاً، ولا تفتح بيتاً، لأنها ضد العقل وضد المنطق. ولهذا يجب على الوزارة مراجعة سياساتها وبرنامجها «نطاقات» الذي جعل توظيف السعودي (وهمياً) وسيلة أو كرت عبور للحصول على الفيز لاستقدام العمالة الأجنبية. ثالثاً: على رغم الجهد المميز الذي يقوم به بنك التسليف في تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة، إلا أن هذه المنشآت لم تنجح، وتحتاج لهيئة أو جهة تساعدها لوجستياً، وتدخلها في عقود مشتريات الحكومة والشركات الكبيرة بما يضمن عدم فشلها تسويقياً، لاسيما وفشلها في تسويق منتجاتها هو السبب الأول لإغلاق كثير منها وخروجها من السوق. وتنمية المؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحل الأفضل لتراكم البطالة وخلق فرص العمل والتملك للمواطن، وتوظف في بعض البلدان ما يزيد على 95 في المئة من العمالة. ختاماً، أعداد الخريجين تكبر وتزداد عاماً بعد آخر، وفرص التوظيف تقل وتتناقص، وإيجاد الوظائف واستيعاب الخريجين لن تحله وزارة ولا جهة واحدة، وإنما يتطلب الموضوع خطة وطنية شاملة تناقش وتقر وتدار بأعلى كفاءة وسرعة، ففرحة التخرج و«البشت» لا تكتمل إلا بالوظيفة، ومبروك للخريجين جميعهم. * نقلا عن "الحياة"