في بيروت غابة، أو دغل، من إذاعات الـ«إف إم» منها ما يغني الغناء الترللّي. وأكثرها ما يغني على ليلاه. وبعضها للناس. وفي إحدى إذاعات الناس برنامج يساعد في العثور على أعمال ووظائف، وفي الجمع بين صاحب الحاجة وصاحب العمل. وهو أفضل البرامج عندي. وأفضل ما فيه متطوع دائم يخصص يومه، أو أسبوعه، للبحث عن وظائف شاغرة، ثم يبلِّغ البرنامج بها. ويبدو أن الرجل طاه، ولذا يكرّس البحث في حقل أعمال المطاعم. قد تسأل: هل أملك حقًا الجلد، أو الوقت، لكي أصغي مَن مِن المطاعم يحتاج إلى نادل أو محاسب؟ لا. لكنني أملك كل الوقت للإصغاء إلى أصوات الخير. أناس لا يملكون سوى القدرة على المساعدة، فيقدمونها. رجل يعمل طوال النهار ثم يخصص جزءًا من المساء لمساعدة أناس لا يعرف عنهم شيئًا. لا مناطقهم ولا طوائفهم ولا طباعهم ولا أحوالهم. في السابق، كان الأغنياء وحدهم يتبرعون بالمال. أي طبعًا النبلاء منهم. لكن الآن ترى شبانًا وشابات يتطوَّعون في الليالي للعمل في المستشفيات. وظني أن الإسعاف التطوعي أكبر بكثير من الإسعاف الحكومي. وكلما بدا لبنان أرض خلاف وشقاق ونفاق وحجاجين، تبلسمت الروح برؤية هؤلاء الأمراء يحملون المرضى إلى الطوارئ في الليل والنهار، في القر والحر، ولا ينتظرون جزاء ولا شكورا. يبتسمون ويمضون إلى عمل آخر. تكاثرت الشرور وتضاعفت على هذا الكوكب. سواء كان يدور أو هو ثابت، كما أثبت صاحب نظرية الطيران من الشارقة إلى الصين. أما لماذا اختار الشارقة، فأعتقد أنه فعل ذلك لسبب بالغ الوجاهة: حركة النقل الجوي أقل ازدحامًا مما هي في دبي، والرسوم أقل كلفة. في أي حال، ما يصل إلى فقراء الكوكب من التبرعات ومنظمات الخير، هو أضعاف ما يصلهم من المؤسسات الرسمية وضعف ما يصل من البنك الدولي. ورغم الكساد الاقتصادي حول العالم، تضاعف عدد الخيرين في العقدين الماضيين. بين 2003 و2010 وحدها ارتفع مجموع مساعدات التنمية الخاصة من 136 مليار دولار إلى 509 مليارات. وارتفع عدد المؤسسات الخيرية في أميركا وحدها من 61 ألفًا عام 2001 إلى 76 ألفًا عام 2009 بينما كان العدد 21 ألفًا عام 1975. وهناك 81 مليارديرا تعهدوا بالتبرع بالجزء الأكبر من ثرواتهم، يتقدمهم أميرهم بيل غيتس وصديقه وارن بافيت. أكثر من 70 مليارًا فيما بينهما. المهم أيضا هم المتبرعون الصغار. الرجل الذي يتبرع بخمسين دولارًا لضحية زلزال في هايتي أو فيضان في بنغلاديش. هذه ثقافة محدودة في العالم العربي. أتمنى أن تنتشر في الإذاعات عدوى فرص العمل بدل العلك السياسي وحشو العقول بالترهات. أحيانا أعتقد أن لا قيامة لمجتمع لبنان، ثم أجد طلابًا يحرسون ليل المرضى والمتعبين، أو أسمع رجلاً يبحث عن أعمال لرفاقه.