شَغلت الممثلة العالمية المكسيكية اللبنانية الأصل مواقع التواصل الاجتماعي في لبنان طوال أيام زيارتها وطن أجداد احتفى بها كما يليق بنجمة تعشقها الكاميرا وتهواها العيون، ولو تجاوزنا بعضَ فولكورية لبنانية مُعتادة مشوبة بفوضى حفلة إطلاق فيلم «النبي» (للمخرج روجر آلرز)، لوقعنا على كثير من أسباب فرح أشاعته زيارةٌ أولى كانت الحفاوة خلالها مُتبادَلة بين النجمة وأبناء بلدها الأمّ. ما خلا انتقادات قليلة، رحب «مواطنو» تويتر وفايسبوك بـ «مواطنتهم»، وراحوا يعقدون مقارنةً غير جائزة، لاختلاف الظروف والإمكانات، بينها وبين نجمات أخريات من «أهل البيت»، أما فرحتها بالزيارة فتَجلّت في تصريحات أطلقتها ودموع حرّى ذرفتها فرحاً بلقاء طالما تمنته، وكم كانت مؤثرة لقطاتٌ أخذتها الكاميرا لجولتها اللبنانية، أَكان في بيت أجدادها في بلدة بعبدات المسترخية على كتف جبل لبنان، أو خلال لقائها «نبيّها» جبران خليل جبران في مسقط رأسه وأحلامه مدينة بشرّي المشغولة بعناق الغيم. إلى حفاوة بنجمة تستحق، أكثر ما كان لافتاً تلك الحرارة والتلقائية والبساطة التي تحلّت بها، وتجلّت في تصرفاتها وكلامها الذي بدا صادقاً شفّافاً، وبوحها الحميم بحُبّ لوطن أجدادها تشكَّل من خلال مروّيات الأهل وبقراءتها «نبيّ» جبران، إلى أن توجته بلقاء مُفعم جمعها بأرض أسلافها، ولعلها في سيرتها هذه مصداق قول جبران: «مهما أقصتني الأيام عن بلادي أظلُّ سوريَّ الهوى، لبنانيَّ العواطف (...)، ومهما أُعجَبُ برُقيّ الغربيين ومعارفهم يبقى الشرق موطناً لأحلامي ومسرحاً لأمانيَّ وآمالي»، وما عودة حايك بحثاً عن جذورها سوى برهان آخر على علاقة سرية غامضة، ذات أبعاد روحية ونفسية، يُقيمها الإنسان مع أرضه ومَسقط جيناته، حتى يكاد المرء يظن أن ثمة حبلَ سرّة سرياً لا ينقطع، بين المولود من رحم هذه الجينات وأحشاء تراب يحتضن رفات الأسلاف وحكايات صبرهم وسلوانهم وعشقهم وغناءهم وبكاءهم في حلّهم وترحالهم بحثاً عن ملاذ آمن، أو عن «نجومية» لا تتأتى إلّا لمَنْ وُهبَ سرَّ القبول الذي تلخصه مقولة «إذا أَحَبَّ الله إنساناً حَبَّبَ الناس به». هذه العطية تتجلى في وجه نجمة تضحك وتبكي كأنها تحمل روحها في بريق عينيها. لا يستكثرنَّ أحدٌ على لبنانيين فرحَ استقبالهم ابنتهم - النجمة، ولا حفاوتهم العارمة بها، ففي غمرة شجون وهموم وأزمات متناسلة يعيشونها منذ أربعة عقود على الأقل معطوفةً على زلازل الإقليم وكوارثه، يحقُّ لهم الابتهاج بنجمة أطلَّت مُشعّة ساحرة، والأهم أنها كشفت، في تصريحاتها وفي حوارها مع الإعلامي الأستاذ مرسيل غانم، عن ثقافة عالية وفهم عميق لما تقوم به، ولمهنة الشهرة والأضواء الضارية. أضواءٌ متى تكثّفت على أحد صارت جداراً يحجب جوهره عن ناسه ومحبيه لمصلحة صورة نمطية تترسخ في الأذهان من خلال وسائط تواصل مهما تقدّمت وتطورت وشاعت وانتشرت تظلُّ قاصرة عن تقديم الكائن البشري على حقيقته. تبقى الصورةُ صورةً مهما كانت شفافة وصادقة، وأحياناً كثيرة لا تكون مُطابقةً بتاتاً لأصلها. بعفوية وأريحية تحدثت حايك، فاستطاعت مُلامَسة قلوب كثيرين ممن تابعوا زيارتها وحفل إطلاق فيلمها الجديد «النبي» المستوحى من كتاب جبران الأشهر (فاقت مبيعاته حول العالم على مَرّ السنين المئة مليون نسخة بمعظم لغات أهل الأرض)، وهو فيلم يُصنَّف ضمن فئة رسوم متحركة تخاطب كباراً وصغاراً على السواء، وبَان من حديثها أنه كان حلماً من أحلامها، وأن إنتاجه «كان مغامرة في هذه الظروف، وهو رسالة لأجل الوحدة» وفق تعبيرها. فـ «قنبلة هوليوود» التي يظل فيلم «فريدا» واحداً من أجمل ما قدّمت واستحقت على دورها فيه جائزة أفضل ممثلة لعام 2003، لم تنسَ، على رغم هالة النجومية والشهرة والأضواء، جذورها فجاءت بحثاً عنها، كأننا بالإنسان مهما شرّق وغرّب، ومهما «تعولم» (وإنسان اليوم مُعوَلم بامتياز) يظل مهجوساً بحنين خَفيّ إلى منابته الأولى، ووفق الطاهر بن جلّون - وإن كانت جملته قيلت في مقام آخر - «كلّما اقتربتَ من مسقط رأسك أكثر اقتربتَ من العالمية أكثر»، ولعلنا هنا إزاء حالة معكوسة لمقولة بن جلّون، مفادها: العالمية والنجومية لا تُغنيانك أبداً عن ترابك ومسقط جيناتك، فمهما بلغت من العالمية تبقى مسكوناً بالحنين إلى «محليّتك». قليلٌ من فرح ينعشُ قلب الإنسان. ليفرحَ اللبنانيون، ولو قليلاً في غمرة مآس محيطة وأخطار مُحدقة، فـ «الوطن الصغير» المنكوب بالسياسة والساسة، أعطى العالم نخبة من نجومه أمثال جبران خليل جبران، جورج شحادة، صلاح ستيتية، أمين معلوف، فيليب سالم، مايكل دبغي، عبدالرحمن الباشا، سلمى حايك، شاكيرا، إيلي صعب وكثيرين تلزمنا مجلدات لتعدادهم. فلا بأس ولا ضير في أن نباهي العالم بمبدعينا، فهم على الأقل لا يخذلوننا كما يفعل ساسة يفتقدون موهبة ابتداع خلاص هذا البلد من مآسيه، وليس جديداً أبداً أن تُعوّض الأوطان القليلة المساحة جغرافياً صغرَ حجمها بالانتشار الإبداعي. نعم، العصبياتُ تُضيّق والإبداع يُوسّع مساحة الأوطان. * نقلا عن "الحياة"