ينتهي مساء اليوم في بيروت المؤتمر الذي دعا إليه وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، تحت عنوان: «الطاقة الاغترابية اللبنانية». ومع أنه حاول، طوال ثلاثة أيام، أن يختصر بواسطة المشتركين أسطورة يعود تاريخها الى أكثر من ثلاثة آلاف سنة، إلا أنه اكتشف أن المحاولة المتواضعة تحتاج الى أشهر من البحث والمراجعة. والسبب أن ملحمة الاغتراب اللبناني في القارات الخمس تعرضت لعملية تنقيب معقدة، خصوصاً بعدما أقامت مجموعة من المؤرخين والأكاديميين معرضاً ضخماً سنة 1988 في إيطاليا تحت عنوان «الفينيقيون». وقد استعان مدير ذلك المعرض، سباتينو موسكاتي، بأكثر من عشرين شخصية بارزة في عالم التاريخ والآثار، بحيث جاءت الدراسات شاملة وجامعة لمختلف جوانب ذلك الشعب الذي انطلق من جبيل وصيدا وصور وطرابلس وأرواد، ليؤسس مستوطنات في أقصى المعمورة. وفي نهاية المعرض، الذي استمر ستة أشهر، نشرت الإدارة كتاباً ضخماً باللغات الإيطالية والفرنسية والإنكليزية، ساهم في إعداده عشرون مؤرخاً عالمياً (800 صفحة). وهو بحق يُعتبَر وثيقة نادرة، الأمر الذي أقنع ميرنا بستاني بضرورة شراء نسخ منه وتوزيعه على المهتمين. والمؤسف أن وزارة الثقافة، في ذلك الحين، اعتذرت عن مهمة ترجمة الكتاب بحجة الشلل المادي خلال الحرب الأهلية. ويُستدَل من مراجعة فصول ذلك الكتاب أن كل المؤرخين تنافسوا على اكتشاف طبائع سهولة الإبحار، والاعتماد على التجارة الخارجية كمصدر رزق لدى الفينيقيين. وفي معرض «لايتنغ هاوس» في وسط لندن شهادة دامغة على مغامرات الفينيقيين في ذلك الزمان، وبين المقتنيات لوحة ضخمة تظهر بحاراً من صور يعرض ثياباً مصبوغة بالصباغ الأرجواني، في حين يحاول تاجر بريطاني بيعه ثياباً مصنوعة من جلود الغنم. وفي وثائق الكتاب الصادر عن معرض إيطاليا، حكايات المغامرات التي قام بها أهل صور وصيدا وجبيل. ويظهر ذلك النص في مؤلفات المؤرخ الإغريقي هيرودوس الذي يؤكد أن الفينيقيين أبحروا حول القارة الأفريقية سنة 600 قبل الميلاد. وأذكر أثناء زيارتي زيمبابوي أن سألت الرئيس روبرت موغابي عن الأسباب التي دعته إلى تغيير الاسم الذي أطلقه الرحالة البريطاني رودس على بلاده. قال محتداً: لأن أجدادنا السود كانوا موجودين في هذه البلاد قبل أن يكتشفها «المستعمِر» الأبيض. لذلك ألغيت تلك الحقبة مع اسمها، واستبدلتها باسم كان يستعمله الفينيقيون، ومعناه «بيت من حجر». ثم استطرد يقول: منذ مئات الأعوام كانت السفن الشراعية الفينيقية تبحر إلى إسبانيا، ومنها تنطلق خلال فصل الصيف للدوران حول الجانب الغربي من أفريقيا. وعندما يحل الشتاء، وترتفع الأنواء العاتية، كان البحارة يركنون مراكبهم في منطقة «رأس الرجاء الصالح»، ويتوجهون على الخيول عبر طريق برية تبدأ في جنوب أفريقيا... وتمرّ هنا في زيمبابوي.. ومنها إلى مصر فعكا وحيفا والقدس. وبعد قطع كل تلك المسافات، تصبح صور وصيدا سهلة المنال. هذا ما وصفه موغابي عن أهمية الطريق البرية التي أستخدمها الفينيقيون كبديل شتوي لاتقاء أخطار الأمواج العاتية. آخر آب (اغسطس) من السنة الماضية أعلنت حكومة مالطا عن اكتشاف حطام سفينة فينيقية غارقة بالقرب من جزيرة غوزو. ومن أجل تحديد تاريخ الحطام ونوعية الخشب المستعمَل في بناء هيكل السفينة الشراعية، تعاون خبراء من جامعة تكساس الأميركية وجامعة مرسيليا الفرنسية. والتقط فريق العمل أكثر من ثمانية آلاف صورة بواسطة أجهزة خاصة بصور الأعماق. وتبيَّن للخبراء أن السفينة كانت تنقل خزفيات وفخاريات ومطاحن صغيرة من حجر الصوَّان تُستخدَم لطحن حبوب القمح والذرة. والمؤكد أن الحكومة المالطية أرادت استغلال حطام السفينة كمادة سياحية، بدليل أنها عرضته في الساحة العامة، مع الإشارة إلى أن تاريخ الغرق يرجع إلى سبعمئة سنة قبل الميلاد. وفي سلسلة مقالات كتبها الباحث محمد عارف في صحف عدة، بينها صحيفة «الحياة»، ذكر أن الفينيقيين ربما وصلوا إلى أميركا قبل كريستوفر كولومبوس. وأشار إلى المستوطنات الكبرى التي أسسها هذا الشعب على شواطىء إسبانيا وتونس وليبيا. كذلك أعاد الى الأذهان أعمال البطولة التي قام بها ابن قرطاج هنيبعل الذي نافس نفوذ الإمبراطورية الرومانية، وكاد يجتاحها لولا النكسات التي مُنيَت بها قواته في جبال الألب. ويذكر المؤرّخ المكسيكي خوسيه لامرنيا أن الفينيقيين سبقوا كولومبوس في الوصول إلى أميركا، وكان ذلك من باب الصدفة لا من باب التخطيط والمعرفة. ويُستفاد من طبيعة البرنامج الذي أعده وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، أن حقبة الاغتراب بالنسبة إلى الحكومات اللبنانية السابقة تبدأ من سنة 1860. أي من سنة نهاية حروب الجبل التي انفجرت سنة 1840. وفي حقبة ثانية يعتبرها المؤرخون حاسمة بالنسبة إلى الذين هربوا من الانخراط في سلك الجندية أثناء الحرب العالمية الأولى (1914-1918). وبما أن حزب «الكتائب اللبنانية» تبنّى منذ تأسيسه شعار الأرزة، وكل ما يثبت أن لبنان هو نسيج خاص يختلف عن بعثية ميشال عفلق وسورية أنطون سعادة... فقد صنّفه القوميون العرب في خانة الأحزاب الانعزالية. وحقيقة الأمر أن النائب يوسف السودا هو الذي جيَّر صفة الانعزالية إلى الكتائب بعد أن تخلّى عن الحزب الذي أسّسه «المحافظون» (1926-1936)، ونقل إلى موقعه الجديد شغفه بالفينيقيين، ورغبته في الاقتداء بمغامراتهم الرائدة. وتفادياً للدخول في متاهات الماضي البعيد، حصر الوزير باسيل اهتمامات المشاركين في المؤتمر بقضايا الشتات، وكل ما يعزّز اللحمة والتنسيق بين المقيمين والمغتربين. منتصف الستينات، دعا الرئيس شارل حلو إلى مؤتمر عُقِد في فندق فينيسيا اعتُبِر من أهم تجمّعات المغتربين الذين جاءوا من الولايات المتحدة والبرازيل والأرجنتين وجنوب أفريقيا وأستراليا. والملفت في حينه أن الجيل الرابع والخامس كان متحمساً لإظهار مشاعره وإعجابه بلبنان أكثر من الجيل الثالث أو الآباء الذين ظلّوا على تواصل مع الوالدة المسنّة أو الوالد العجوز. وفي كل صيف تقريباً كان لبنان يستقبل آلاف المغتربين من الذين يفرغون جيوبهم من المال ويملأونها من تراب الوطن. وكان عميد الجالية اللبنانية في البرازيل عزيز نادر (من بلدة القبيّات في عكار) يحرص على زيارة الأهل والاستمتاع بموسم الصيف. ومن الروايات التي ردّدها حول تدفّق المهاجرين اللبنانيين إلى البرازيل كانت رواية الإمبراطور بادرو الثاني (1825-1891) الذي زار لبنان سنة 1876 ونزل في فندق «المنظر الجميل»، «بال فو» على «البرج»، ترافقه زوجته الإمبراطورة تريزا كريستينا ماريا. وأثناء إقامته في لبنان، زار إمبراطور البرازيل بادرو الثاني كلية «كوليج بروتستانت» التي صارت لاحقاً الجامعة الأميركية. كما زار «كوليج جازويت» الفرنسية اليسوعية، التي تحوّلت بعد فترة إلى جامعة القديس يوسف. كذلك حرص على الاجتماع بكبار الأدباء من أمثال العلامة إبراهيم اليازجي الذي أهداه مجموعة مؤلفاته، والموجودة حالياً في المتحف الإمبراطوري في «الريو». وحدث أثناء زيارته الجامعة الأميركية أن التقى طلاباً عدة، وحدّثهم عن الإمكانات المتاحة لهم في حال قرروا الهجرة إلى البرازيل. وكان بينهم نعمة يافث الذي قدّم للجامعة بناية تحمل اسمه. وبين العائلات المعروفة التي جمعت ثروات خيالية في البرازيل كانت عائلات: يافث ومعلوف (بينهم أهم ثلاثة شعراء) وعائلة زوجة فيليب تقلا وزوجة بيار إده وآل سعد والراسي ومفرج. وكان من الطبيعي أن تساهم جريدة «الهدى»، التي أصدرها نعوم مكرزل في فيلادلفيا ونيويورك سنة 1898، بتعزيز اللغة العربية، وإفساح المجال لكبار الشعراء والكتّاب لنشر إنتاجهم. وعندما زار الرئيس بشار الأسد البرازيل، فوجىء بأهمية الحضور الاغترابي اللبناني، وبالمراكز العليا التي يحتلّها عددٌ كبير منهم. وقد عبَّر عن إعجابه بذلك الحضور أمام نائب رئيسة الجمهورية ميشال تامر الذي ولِد في الريو (أصله من بتعبورة في الكورة). وبما أن كل الحفلات الرسمية التي أقيمت له كانت في «النادي اللبناني»، لذلك قال الأسد لمضيفه حاكم الريو جيلبرتو كساب، إن لبنان يلاحقه في كل مكان في العالم. بقيت الأسئلة التي تطرحها وسائل الإعلام اللبنانية حول الغاية من عقد هذا المؤتمر في وقت يعيش الوطن الصغير في فراغ رئاسي منذ سنة تقريباً... وخلال مرحلة بالغة الخطورة في ظلّ خطب التهديد والوعيد التي يلقيها السيد حسن نصرالله. وهذا يعني انعدام فرص الاستثمار من قبل جماعات تعيش وتعمل في بلدان مستقرة بعيداً من أتون النار الذي تشعله إيران في المنطقة. صحيح أن السبعمئة ألف دولار التي ستنفق على التكاليف لم تُسحَب من خزينة الدولة... ولكن الصحيح أيضاً أن المتبرعين لا ينتمون إلى جمعيات خيرية! كما يعني أيضاً أن الوزير جبران باسيل لا يحسن «الطحن» بدليل أن السنوات التي أمضاها في وزارة الطاقة لم تثمر سوى الفاقة. في حين دفعت إسرائيل كلّ ديونها من أثمان الغاز الذي استخرجته من آبارها وآبارنا المجمّدة بانتظار الترسيم والتنقيب. وكل ما نتمنّاه هو ألا يكون مصير مشروع «الطاقة الاغترابية» مثل مصير مشروع الطاقة الغازية والنفطية!