2015-10-10 

حبر وملح (... مُشْ عايز كِده!)

زاهي وهبي

لافتة تلك الحشود التي تتوافد إلى حفلات مغنين متميزين على رغم كل ما يقال عن تراجع الفن الراقي الجاد أو الهادف أو الملتزم، وهنا نفتح هلالين لنقول إن صفة الالتزام ليست وقفاً على الأغنية السياسية التي شاعت وانتشرت وشهدت عصراً ذهبياً في السبعينات من القرن الماضي، بل تطاول كل غناء يلتزم الإنسان ويعبّر عنه وعن طموحاته وأمانيه وآماله وآلامه، وبهذا المعنى تغدو أغنية الحب الجميلة أغنية ملتزمة. نحن على مشارف الصيف، ما إن يبدأ موسم الإجازات في ما تبقى من بلادنا الناجية من الحروب وويلاتها وكوارثها حتى تبدأ المهرجانات الغنائية هنا وهناك، وما إن يتم الإعلان عن حفلة غنائية للسيدة فيروز أو زياد الرحباني أو ماجدة الرومي أو جوليا أو مرسيل خليفة أو كاظم الساهر أو لطفي بوشناق حتى تنفد البطاقات فور طرحها أمام الجمهور. هذا الأمر يتناقض كلياً مع مقولة «الجمهور عايز كده» التي يروجها كثير من المنتجين أو المعلنين لتبرير تلكؤهم عن المساهمة في إنتاج أي عمل ذات قيمة، وإغراقهم الساحة بما هبّ ودبّ من أغنيات سطحية وسخيفة، وللعِلم فإن الأغنيات السخيفة أمر آخر مختلف تماماً عن الأغنيات الخفيفة، فالأخيرة كانت دائماً موجودة ومحط اهتمام شريحة كبرى من المستمعين الذين لا يمكن أبداً قسمتهم فسطاطيْن كما يفعل أهل السياسة أو الأيديولوجيا. الإنسان نفسه يحتاج في لحظة معينة إلى الإصغاء إلى أم كلثوم والانتشاء بصوتها الجبّار وتطريبها الأخّاذ وفي لحظة أخرى الاستماع إلى دلع نانسي عجرم والاستئناس بغنجها ودلالها وخفّة حضورها، خصوصاً أن الأغنية لم تعد مجرد صوت بل دخل إليها وبقوة عنصر الصورة بكل ما تحمله الصورة من دلالات وإيحاءات. إذاً، ليس القصد رفض الغناء الخفيف اللطيف وشجبه وإدانته، بل البحث عن أسباب تغييب كل ما هو عميق إنساني، وتبيان مسؤولية رأس المال المنتج عن حال التسيب الغنائي. واقع الحال أن المهرجانات العريقة المرموقة تكشف لنا مجدداً من خلال تنظيمها حفلات لكبار المغنين أن الناس يأتون للاستمتاع بالفن الحقيقي متى سنحت لهم فرصة، وإلا بماذا نفسّر الإقبال الكثيف على مهرجانات مثل بيت الدين وبعلبك وجبيل في لبنان وقرطاج في تونس وجرش في الأردن وموازين في المغرب وسواها. نعرف أن تلك المهرجانات باتت تتيح المجال أمام مغنين «شعبيين» ممن يقدمون أغنيات يمكن وصفها بالخفيفة، ولسنا ضد هذا الأمر، لأن المطلوب تنويع الخيارات المتاحة للعموم، لكن المهم من وجهة نظرنا أن حفلات كبار المغنين ممن ذكرناهم أعلاه ونظرائهم لا تزال تستقطب الآلاف، الأمر الذي يطيح نظرية «الجمهور عايز كده»، ويبين لنا ضحالة الوعي بالمسؤولية لدى القيمين على قطاع الإنتاج الغنائي من المتمولين الكبار الذين لا يمتلكون هماً إبداعياً ولا حتى أخلاقياً أو وطنياً، لأن العمل في ميدان الفن أسوة بكل ما له علاقة بالشأن العام أو بالرأي العام، له بعد يتجاوز منطق السوق ولغة العرض والطلب إلى الالتزام الأدبي والإبداعي إسهاماً في رِفعة المجتمع ونهضته. يخطئ مَن يظنّ أن الفن هو مجرد وسيلة ترفيه، الفن غاية بذاته ولذاته، وإلى هذه الغاية الرفيعة ثمة ما يتخطى الجانب الترفيهي على أهميته، وينبغي أن يكون لكل فن وجه ترفيهي. من النوافل التذكير بضرورة الفن ودوره في تقدّم الشعوب وتميّز الأمم، فضلاً عن تهذيب النفس البشرية وتخليصها من أدران كثيرة، لذا فإن جلّ ما ندعو إليه المنتجين والمعلنين ووسائل البثّ المختلفة هو إيلاء الفنون العميقة ما تستحقه من رعاية واهتمام، والكفّ عن التذرع بحجج واهية مثل «الجمهور عايز كده» لمواصلة نهج التسطيح والتفاهة الذي بلغ الزبى، وحان وقت التخلي عنه، أو على الأقل منح الناس فرصة الاختيار بين هذا وذاك، وساعتها سيكتشف هؤلاء أن الفن الراقي يمكن له أن يكون، وفق لغتهم، استثماراً جيداً، ليس فقط لأنه مربح، بل أيضاً لأنه استثمار في الإنسان، إذ لا يعقل أن يعيش الإنسان العربي كل ما نشهده ونختبره من حروب ومِحن، فيما المغني يغني: بوس الواوا أو بَحبك يا حمار...

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه