حتى القناة الصينية الناطقة بالعربية CCTV خصصت حلقة خاصة منذ يومين لمناقشة أحكام الإعدام في مصر (تجاوزت ١٥٠٠ حكمًا بالإحالة إلى المفتي)، والتي ننتظر النطق بالحكم في واحدة من أكثرها إثارة (وتأثيرًا) واهتمامًا دوليا الثلاثاء القادم (الثاني من يونيو). وهي تلك التي كانت إحدى دوائر محكمة جنايات شمال القاهرة (الدائرة ١٥) قد قضت فيها قبل أسبوعين بإحالة أوراق ١٢٣ للمفتي. وكانت الأخبار قد فجعتنا بعد ساعات من الحكم بأن ثلاثة شباب «مصريين» من وكلاء النيابة مع سائقهم راحوا للأسف ضحايا هجوم استهدفهم (رغم أن مدرعة مسلحة كانت تحمي سيارتهم). لا نحتاج كثيرا من الحكمة ومن العدل القائم على «أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى» لنرفض أي حجة يتحجج بها هذا أو ذاك، ولندين الحادث بوضوح وبلا أدنى مواربة. ولكننا لا نحتاج أيضًا كثيرا من الحكمة لندرك أن سؤال الأمن والاستقرار مازال سابحًا في سماء الوطن لعامين كاملين، رغم الإدانة والجنازات العسكرية وسرادقات العزاء.. ••• العدالة» ليست نصوصًا في قوانين، أو أحكامًا على المنصة. «العدالة إحساسٌ» إذا غاب أصبحت «الدولة» في خطر. هكذا علمنا التاريخ، وقرأنا في كتب القانون لا أعرف مدى صحة ما قال به البعض من ربط بين الحكم وحادث الاغتيال، فمناط ذلك إلى جهات التحقيق، ولكني كمراقب ـ لا أكثر ـ لا يمكنني أن أنظر إلى الجريمة بمعزل عن سياق عام يمر به الوطن منذ عامين، لم يتحقق فيهما أمنٌ ولا أمانٌ؛ كان الناس قد وُعدوا به. وكانت مانشتات صحف رسمية قد قالت غير مرة أنه تحقق فعلا في سيناء التي أصبحت «خالية من الإرهاب..» كما قالت لنا إحداها (الأهرام ٢٣ سبتمير ٢٠١٣ و ٢٥ أبريل ٢٠١٤ ثم .. ١٤ يناير ٢٠١٥) لن أعلق على الحكم، أو على غيره من أحكام بإحالة أوراق هذا العدد أو ذاك إلى المفتي (تجاوز العدد الألف وخمسمائة في خمسة عشر شهرا) فتقارير الصحافة العالمية، وتقارير سفاراتنا في الخارج، فضلا عن تعليق الأمين العام للأمم المتحدة أحسبها تكفلت على مدى أسبوعين كاملين بالموضوع، كما لن أناقش التفاصيل القانونية، فأهل الاختصاص والمعنيون هم الأقدر قطعًا على النظر في حيثيات حكم شملت قائمة المدانين فيه، والمحالة أوراقهم إلى المفتي متهما (سبقت وفاته الواقعة المسندة إليه بثلاثة أعوام كاملة). أو ما هو مثل ذلك من تفاصيل، أتركها لسدنة العدالة الأجلاء، ولكتب في القانون ستجد طريقها يوما إلى المكتبات ومحاضرات الجامعات ولكني سأعنى هنا بالمستقبل، وبما هو أوسع من ذلك بكثير؛ القضاء / المؤسسة .. والقضاة / القائمين عليها. ثم قبل ذلك وبعده «أمن المجتمع واستقراره». ••• «يحيا العدل» .. بهذا الهتاف ــ لا بغيره ــ تحيا الأوطان والمجتمعات في آخر أفلام السيدة أم كلثوم «فاطمة» والذي عرض عام ١٩٤٧ كان هناك مشهدان في قاعة المحكمة. يحكم القاضي في أولهما، كما تقضي قواعد العدالة بما توافر له في ملف القضية من أدلة، فيدين فاطمة «البريئة». فلا يرتفع صوت احتجاج في القاعة، التي يعرف كل الجالسين فيها ببراءة الفتاة، بل يقتصر الأمر على تكاتف أهل الحارة الطيبين في جمع «الكفالة» التي قضى بها الحكم. وغناء أم كلثوم رائعتها «السنباطية» المؤثرة: «ظلموني الناس». ثم تمضي أحداث الفيلم كما هي أفلام تلك الفترة، حتى يأتي المشهد الآخر (في المحكمة) عندما تتضح «الحقيقة» للقاضي فيحكم ببراءة فاطمة، فتصدح القاعة بالهتاف الذي به لا بغيره تحيا الأوطان والمجتمعات: «يحيا العدل».. ثم تنزل لافتة النهاية على صورة معبرة لحارة هادئة «مطمئنة» بعد أن قضى القاضي من على منصته «المهيبة» العالية بما يعرف الناس قبله أنه «العدل». أكرر: بما يعرف الناس أنه «العدل». قرأنا في أدبيات القضاء، وعلمنا شيوخهم أن العدالة ليست نصوصًا في قوانين، أو أحكاما على المنصة، بل «العدالةُ إحساسٌ» يشيع بين الناس، اطمئنانا لقاضيهم الذي يختصمون لديه، ويطمئنون إلى ما يقضي به. إحساسٌ بالمساواة والإنصاف وعدم التمييز. وأساس ذلك كله «نزاهة جهات التحقيق وإنفاذ القانون»، ولهذا مثلا لم تتوقف الاحتجاجات المستمرة للمكسيكيين على واقعة اختفاء ٤٣ طالبا في سبتمبر ٢٠١٤ (رغم إعلان وزير العدل هناك نتائج التحقيق في الحادث.) لماذا؟ الإجابة ببساطة بدت واضحة ودالة في ما عبر عنه المكسيكيون في احتجاجاتهم «بعدم ثقتهم» في نزاهة التحقيق. الثابت بالتجربة إذن، وما تعلمناه في كتب القانون: أن المجتمعات تستقر حين «يثق الناس» في مؤسسة العدالة… انتهى. ••• اقرأوا التاريخ: أخطر المواجهات، حين تضع ظهر أحدهم إلى الحائط. أو حين يعتقد أن لا عدالة على الأرض فيلوذ بعدالة السماء قبل سنوات، كنت قد سمعت من طارق البشري؛ القاضي المنصف والمؤرخ المدقق «الذي لا ندرك قيمة أنه يعيش بين ظهرانينا» حكاية عن أبيه رحمه الله (قصها بعد ذلك على قراء «وجهات نظر» في مقالة مهمة عن القضاء / مارس ٢٠٠٣). يحكي لنا البشري أنه كان في الخامسة عشرة وقت أن كان والده المستشار عبد الفتاح البشرى رئيسًا لإحدى دوائر الجنايات الثلاث بمحكمة الإستئناف بالقاهرة. وتصادف أن اغتيل المستشار أحمد الخازندار في الحادثة المعروفة (عام ١٩٤٨)، فرأت الحكومة أن تقدم سيارة بحرس إلى كل من أعضاء هذه الدوائر. إلا أن القضاة الثلاثة بعد أن تباحثوا الأمر بينهم اتفقوا جميعا على عدم قبول العرض. وكانت حجتهم التي سمعها الابن من أبيه، أنه كيف يسوغ أن يرى المتقاضون قاضيهم خائفا يحتاج إلى حراسه؟ وكيف يطمئنون إليه وإلى حيدته في مثل هذه الحال؟ ثم قال موجزا: «إن شرعية القاضى عند الخصوم الماثلين أمامه أنهم يطمئنون إلى حياده، وأن قوته ومنعته في هذا العدل وذاك الحياد». ثم يبسط لنا البشري في في مقال آخر (يونيو ٢٠٠٥) علاقة القاضي بالمتقاضين: «عندما تجلس علي منصة قضاء، ويقف أمامك الخصوم بمنازعاتهم يتجادلون ويتخاصمون، وكل يرد علي الآخر حجته، تعرف أنهم لم يتفقوا علي شيء قط إلا أنهم يطمئنون إليك، … وإذا أمكن لك أن تستطرد في التأمل، فستعرف أنهم لولا ثقتهم في حيدتك واستقامتك، ولولا ثقتهم في قدرتك علي أن تحكم بما تقتنع بأنه الحق والصواب، لما أتوا إليك». ثم يطرح طارق البشري علينا السؤال المحوري: ما الذي يحدث إذا لم يأتوا إليك، والحال أن لكل منهم حقًا يدعيه لنفسه أو أنه يشكو من ظلم يطلب رفعه عنه، وهو في حال ضرورة أو احتياج لاقتضاء حق يدعيه أو لرفع ظلم يعاني منه، … الذي سيحدث هو أنه سيسعي لاقتضاء حقه بيديه، أي أنه سيلجأ للعنف إن عاجلاً أو آجلاً. … والأمر هنا أمر سمعة واطمئنان وثقة، بالمعاني الجماعية لهذه الكلمات، ويبقي لدي أفراد الجماعة الاستعداد للتحاكم ما بقيت هذا المعاني مستقرة حسب الغالب من الحالات». ••• العدالة كما عرفناها «عمياء» لا تميز بين متخاصمَين أو بين متهمَين. تحكم لليهودي بالأحقية في الدرع ولو نازعه الحاكم / أمير المؤمنين. لا يحتاج القضاة إلى عربات مصفحة. بل يحتاجون، ونحن معهم إلى مجتمع «يشعر» بالعدل والإنصاف والمساوة. لا يحتاج القضاة إلى عربات مصفحة. بل يحتاجون، ونحن معهم إلى مجتمع يدرك أن الحكمة في كسر دائرة الثأر والدماء. لا يحتاج القضاة إلى عربات مصفحة. بل يحتاجون، ونحن معهم إلى مجتمع لا يقتات فيه هذا وذاك على خطاب الكراهية وصناعة العدو. مجتمع يدرك أصحاب قراره حكمة أن لا تضع ظهور الناس إلى الحائط. لا يحتاج القضاة عربات مصفحة، بل يحتاجون إلى نظام، ثم مجتمع يدرك حكمة ما قاله مارتن لوثر كنج: «أن نعيش معًا كإخوة، أفضل من أن نموت معًا كالأغبياء» لا يحتاج القضاة إلى عربات مصفحة. بل لعلهم لا يحتاجون، ونحن معهم إلى أكثر من أن يدرك الناس أن العدل دائما كما عرفوه؛ مستحقًا لأن يحمل اسما من أسماء الله الحسنى. وأن العدالة كما عرفوها «عمياء» لا تميز بين متخاصمَين أو بين متهمَين. عدالة تحكم لليهودي بالأحقية في الدرع ولو نازعه الحاكم / أمير المؤمنين. لا يحتاج القضاة إلى عربات مصفحة. بل يحتاجون إلى منظومة تشريعية عادلة ومعاصرة، تبرأ من الأحقاد والثأرات. وتحترم المادة ٥٣ من الدستور، فلا تميز بين هذا وذاك «بسبب الدين أو المستوى الاجتماعي.. أو الانتماء السياسي»، ولا تقصي أحدا بسبب معتقداته أيًا كانت؛ دينية أو سياسية أو مذهبية. يحتاح القضاة، ونحن معهم عدلا حقيقيًا لا يسمح بأن يحُال الناسُ إلى غير قاضيهم الطبيعي. كما لا يسمح بأن يتسع اختصاص المحاكم العسكرية (دستوريا أو قانونيا، أو بالمخالفة لكليهما) فيجور على ما استقرت إليه الأعراف الدستورية والدولية من ضمان مطلق لأن يحاكم المواطنون أمام قاضيهم الطبيعي، بكل ما يعنيه وما يعرفه القضاة أكثر من غيرهم من تعريف لهذا «القاضي الطبيعي». يحتاج القضاة إلى أن يضع القوانين التي يحتكمون إليها هيئة تشريعية «منتخبة» من الناس الذين يحتكمون إليهم، لا حاكم فرد مهما كانت شعبيته؛ مستقرة كانت أو مؤقتة. تعلمنا أن لا انتقال سلمي إلى مجتمع ديموقراطي معاصر، دون الانتباه إلى حقيقة ما يتطلبه هذا الانتقال من مقتضيات العدالة الانتقالية الخمس Transitional Justice التي تعرفها كتب السياسة وكل تجارب التحول الديموقراطي. وقرأنا في الكتب، وخبرات السابقين، وبعد كل ذلك «تجربتنا ذاتها» أن للقضاء / المؤسسة نصيب مهم في هذا الملف، عنوانه، بغض النظر عن التفاصيل وهي كثيرة وحاكمة: «الاستقلال» .. ثم الاستقلال. ذلك الذي لا يسمح، قانونا «ومناخا» ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة «بسيف المعز أو بذهبه». «لا قضاء إلا إذا كان مستقلا» بدهية لا تحتاج إلى إثبات. ويعرف القضاة «الحريصون على استقلالهم» ونعرف معهم أن «استقلال القضاء» ليس ريشة على رؤوسهم، أو مزية لهم، أو لكونهم «أسيادا للجميع» كما أساءت لهم ولنا تصريحات سمعناها، بل هو ضمان للعدل الذي هو ضمان للأمن ولاستقرار المجتمع. والحاصل أننا قرأنا ألف مرة في أدبيات القضاء، وسلوك الأجلاء «الحافظين للعدل» أنه لا يوجد أعلى وأرفع من منصة القاضى. وأن تحصين القاضى ما هو إلا ضمان للمتقاضى. وأن حصانة القاضي في عدله. أكرر: حصانة القاضي في عدله. ••• وبعد .. فلعلي .. والأخبار حولنا تترى «كاشفة» كما يقول التعبير القانوني الأثير، مفرطٌ في التفاؤل. ولكنه تفاؤل الغريق الذي ليس أمامه إلا أن يمسك بخشبة سابحة في اليم. مدرك لأهمية القضاء / المؤسسة، ولخطورة إسقاط مهابة منصة «وميزان عدالة» لو شاع بين الناس اهتزازه لما اطمأنوا أبدا للجوء اليه. ولعمد كل منهم إلى أن يأخذ حقه «أو ما يتصور أنه حقه» بيديه، ولسقطت «الدولة» التي هي بالتعريف مؤسسة لتنظيم حياة الناس. ولفشل الحاكم أيا من كان هذا الحاكم في إدارة أمور بشر يتجاوز تعدادهم التسعين مليونا. لا مجتمع آمن بلا قضاء عادل .. ولا قضاء عادل إلا إذا كان «مستقلا» يقوم عليه قضاة مستقلون «يلوذون بعدلهم، فيحميهم عدلهم». قضاء يحكم لفاطمة «البريئة» فيهتف الناس «يحيا العدل». لا تحتاج العدالة إلى عربات مصفحة، فالقضاة «بميزانهم» قادرون على حماية العدالة. والعدالة قادرة على حماية الوطن.