يقرأ المرء خواطر علي سالم في المسرح والسينما والذكريات وعاميات مصر الساحرة، لكي يمتّع النفس في زمن الكرب، وليس لكي يختلف معه. السبت الماضي اختار الكتابة عن ثلاث أغانٍ، بينها واحدة للصدّاح الراحل طلال المداح، يسخر من أغاني الذل أمام الحبيب. أحب أن أشير إلى أن الذل الغنائي، أو الشعري، لم يكن عربيًا فقط. ذلك كان زمنًا رومانسيًا سائدًا في كل مكان. في السينما والمسرح والغناء، إلى الستينات، كان البلجيكي جاك بريل، أهم مغني الفرنسية يومها، يغني: «دعيني أكن ظلاً لكلبك». وكانت الناس تذهب إلى السينما وتخرج وعيونها متورمة من البكاء. وقامت شعبية فاتن حمامة بادئ الأمر على أحزانها. وقد سألتها مرة ما هي أحب أفلامها إليها فسمَّت اثنين: عمال التراحيل ودعاء الكروان. خيري شبلي وطه حسين. وفي كليهما حكاية الظلم والضعف والاضطهاد. ومنذ أكثر من ربع قرن ومسرحية «البؤساء» تُعرض في لندن ونيويورك، تأليف شاعر فرنسا الأول فيكتور هوغو، وتوليف منتج لندن الأشهر، أندرو لويد ويبر. الناس تتفاعل مع الحزن كما تتفاعل مع الفرح. تتماثل مع ضحايا الاضطهاد والعشق. وبعض المعشوقين ظالم، درى أم ما درى. والحرمان في كل حالاته شكل من أشكال القهر. لم يكن نزار قباني أول من كسر قاعدة «الذل» الشعري. «بدراهمي» قال للمرأة الصادَّة والمتعالية. ولم يذهب كثيرون مذهبه في ذلك. لكن أحمد رامي كان قد انتفض قائلاً: من أنتِ حتى تستبيحي عزّتي فأهين فيك كرامتي ودموعي! مال الشعر في المرحلة الرومانسية إلى الحزن. في «ديوان الشعر العربي» لأدونيس، لا تقرأ سوى شعراء على الأطلال. من طرفة بن العبد و«برقة ثهمد» إلى أحمد ناجي. ومقابل كل عمر بن أبي ربيعة و«أتعرفن الفتى» هناك مائة أحمد رامي وبدر شاكر السياب. وهناك طبعًا الشاعر العراقي الذي كتب الأغنية الشعبية الشهيرة «ما لي شغل في السوق، مرّيت اشوفك». أي لو كان على صاحبنا أن يمر ببائع البهارات، أو الاسكافي، لحُرمت تلك المسكينة من رؤية الطلعة البهية. تصور الأغاني، شعبية، عامية، أو قصائد مغناة، مراحل زمنية من حياتنا. لن يظهر اليوم عبد الحليم حافظ أو أم كلثوم. عندما غنى عبد الوهاب في أواخر أيامه «من غير ليه» لم تُدرج حتى في أغانيه. كان السامعون قد تَغيّروا أو غُيروا، من دون أن يدرك ذلك، أو يدركوا. الزمن لا يكف عن التغيُّر. وهذا لا يعني أننا سننتقل إلى عصر الكليبات و«بوس الواوا حتى الواوا يسح».