لم يعد كتم الصوت مقتصرا على استعمال السلاح الذي اخترعه العالم الأميركي هيرام ستفين مكسيم عام 1908، وما زال استخدامه مستمرا حتى اليوم في العمليات السرية، التي تستهدف معظمها شخصيات سياسية وفكرية معارضة لأنظمتها، أو قادة رأي ومناضلين. فقد طورت أنظمة الاستبداد أساليب قمعها، فلم يعد قمعا فرديا بل صار جماعيا. فقد أغلقت دولها وقمعت شعوبها، وتحكمت بالإعلام والمدارس والجامعات والمنشورات، ودور المسرح والسينما وحتى الأطعمة والألبسة، وسخرت لذلك أجهزة بوليسية سادية، وقامت بتصفيات جسدية واعتقالات عشوائية لمعارضيها، وبنت السجون وشرعت المنافي، وحرضت على كل من تشك بأنه يشكل خطرا على سلطاتها، أو من الممكن أن يؤثر على حركة المجتمع، أو تطوير المعرفة عند الأفراد الذين قد يشكلون كتلة اجتماعية تزعزع أركانها. اليوم يقف من تبقى من أنظمة الاستبداد عاجزا عن مواجهة تقنيات ثورة المعلوماتية، التي أطاحت بأدوات القمع التقليدية، فسقطت فكرة الترهيب الجماعي، ولا أستثني منها حتى كوريا الشمالية، تراجعت قدرة هذه الأنظمة على التحكم المعرفي، بسبب سهولة التواصل وسرعته، عبر شبكات التواصل الاجتماعي، فلجأت إلى سياسة التوحش المباشر، بعدما تيقنت أن السير عكس التاريخ لا يستمر إلى الأبد، فاتخذت قرار الانتحار الجماعي «أنا ومن بعدي الطوفان» كما في النموذجين الليبي والسوري. في نموذج دولة الطوائف اللبنانية، اعتمدت سلطة الطوائف تدريجيا منذ التأسيس، في بنائها الداخلي على الجدار الحديدي العازل لفصل مكون كل واحدة منها عن المكونات اللبنانية الأخرى، فلم توفر وسيلة إلا واستخدمتها، في تحصين موقعها الداخلي ضمن بيئتها، وحين وصل بها المطاف إلى طرح السؤال الوجودي، في المنعطفات السياسية الكبرى، كان من شأنه أن أثر على مكاسبها داخل طائفتها، أو على منظومة مصالحها داخل نظام المحاصصة الطائفية. فقد اختزل السؤال الوجودي، المحق نسبيا، لدى اليمين اللبناني عشية الحرب الأهلية 1975، باليمين المسيحي، الذي ارتكب أخطاء فادحة في لحظة احتدام طائفي، حولته إلى يمين مذهبي، ثم إلى يمين حزبي في صراع السلطة والحكم، واختزل القضية اللبنانية بقضية الطائفة أو الحزب أو الشخص، واختزل الأخير مصلحة الحزب والمذهب والطائفة والمجتمع والدولة والوطن بشخصه. المقلق في التجربة اللبنانية أن الطوائف لم تتعظ من تجارب طوائف سبقتها، وهي تصر على تكرار الأخطاء ذاتها، ها هو حزب الله يطرح سؤالا وجوديا على شيعة لبنان، في خضم حروب مذهبية تشن في محيطه، لم تعد احتمالات وصولها إلينا بعيدة، وقد يكون حزب الله في سؤاله الوجودي محقا نسبيا، عشية 18 آذار (مارس) 2011، يوم انطلاق ثورة الشعب السوري السلمية، لكن عن حجمه ودوره وليس وجوده في اللعبة السياسية اللبنانية، وتأثرها المباشر تاريخيا وجغرافيا بالجار الوحيد والكبير سوريا. إلا أن حزب الله الذي قرر الذهاب إلى سوريا حماية لنظامها دفاعا عن نفسه، رابطا الحفاظ على امتيازاته ببقاء النظام، يعود بعد أربع سنوات من حربه الاستباقية خائبا وأكثر قلقا، ليس فقط على امتيازاته بل على مستقبله، مما استعجله إلى طرح السؤال الوجودي على شيعة لبنان، بعد أن أقنع أغلبهم بأن موقعهم القوي في لبنان نابع من قوته، لكنه في الطريق إلى نزع هذا التوكيل الدفاعي منهم، بدا عليه ضعف أدواته واهتراء خطابه، فحول هجومه على قلة شيعية عارضت سياساته في سوريا، فدعا إلى مقاطعتها ومحاسبتها واتهمها بالخيانة والعمالة، هذا الهجوم وإن عكس قدرة هذه الجماعة الصغيرة على التأثير لو البسيط، يكشف عمق الأزمة الداخلية التي يعيشها حزب الله، وعدم امتلاكه الأجوبة المبررة لهذا الكم الكبير من الخسائر بالأرواح، والفشل في تحقيق الانتصار أو فرض حل سياسي، فقرر كتم الأصوات التي تسائله وتجادله، وسلط عليها أدواته الإعلامية التي تتقن سياسة التحريض والتخوين والدعوة العلنية إلى القتل، لأنه لم يعد يملك جوابا شافيا عن سؤال الوجود. ليس كاتم الصوت هو الآلة التي اخترعها هيرام مكسيم فقط، فهناك كتاب وصحافيون، ممن أعطوا صفة مفكرين وخبراء ومحللين، يمكن تشبيههم بآلات كتم الصوت، مع سحب براءة الاختراع من مكسيم، وهم مسؤولون بشكل مباشر ليس عما قد يصيب القلة الشيعية اللبنانية الشجاعة من أذى جراء تحريضهم، بل ما سيصيب أهل الطائفة كلهم، نتيجة كلامهم المعسول، الذي يزين لهم موتهم.