السلامُ عليك يا حبيبي يا محمد. السلام عليك أيها النبي ورحمةُ الله وبركاته. ألقيت تحيتي وانتظرت قليلاً، أصيخ السمع هذه المرة بكل جوارحي.. لعلّي!. هل سمعته فعلا يرد عليّ التحية كاملة وأنا لا أزال أغمض عينيّ على حلمي الذي تحقق بكل هذ اليسر؟ *** لا أعرف بالضبط إن كان ما حدث حقيقة أم لا، ولا أريد أن أستمر في تساؤلات قد تصدم إجاباتها طريقتي الراسخة في التفكير العلمي. كنت منحازة دائماً لتلك الطريقة في التفكير، وكلما لاحت أمامي فرصة للمزج بين الطرائق المختلفة ابتعدت عنها، واعتبرتها فرصة لتغييب عقلي للأبد. لست من أنصار تلك التهويمات السابحة في فضاء التخيلات. نعم أحب خيالاتي، وأستدرج مخيلتي لإنتاج المزيد منها، وأكتب قصيدتي في فضاءاتها المفتوحة، لكنني أضع ألف حاجز وحاجز بينها وبين طريقتي في التفكير. لا أعرضها للخلط ولا أعيش في ارتباكاتها. لماذا أقول ذلك الآن؟ ربما للتأكيد على أنه لم يخطر في بالي أثناء تلك اللحظة التي كنت أسمع فيها النبي الكريم وهو يرد عليّ التحية. كنت أسمعه بقلبي إذن. وليس للقلب ذلك المنطق الذي أفكر فيه. ألم أقل إن "قلبي دليلي"؟ كان دائماً دليلي الحنون الذي يعرض أمامي أحيانا خرائط غير موجودة ولا يرسمها أحد. لكنها لحسن الحظ تنفعني في لحظات الضياع، فأسير على خطاها، وأصل غالباً. ها أنذا أصل الآن الى طمأنينة عذبة تكفيني زادا لطريق طويل. أقف بين يدي المصطفى لألقي تحيتي عليه، وأدعو. هل قلت إنني أدعو؟ لا.. لم أكن أدعو. خجلت أن أستثمر وقفتي تلك في الدعاء. لا أدري إن كان في خجلي ما يجرح "شكل" إسلامي أم لا، إلا أنني فعلاً شعرت بالخجل من أن "أستغل" تلك الوقفة لمجرد الدعاء، والطلب. كنت أستصغر كل طلب يمكن أن أطلبه في تلك اللحظة. فكل "طلباتي" تواضعت فعلاً وأنا أعيش لحظاتي الذاهلة عن كل شيء إلا عن معنى المكان الذي أقف في رحابه. *** كنت أريد أن أعيش تلك اللحظات التي ربما طالت قليلاً لتكون دقائق، هكذا.. هكذا.. فقط هكذا، محض لحظات إيمانية إنسانية نبوية نادرة وقليلة، ولم تطل طويلاً، فقد جرفتني الجموع المحيطة بي بعيداً عن مكاني القريب جداً من تلك الحجرة النبوية الساكنة في إشراقاتها. *** وجدتني في نقطة المنتصف بالضبط بين منبره عليه الصلاة والسلام وبيته. هل أنا إذن أقف في قلب روضة من رياض الجنة؟ قال النبي الكريم: "ما بين منبري وبيتي روضة من رياض الجنة ومنبري على حوضي". هل ستكون رياض الجنة فعلاً بهذا الشكل الذي أراه الآن؟ هل أفسر القول النبوي مجازياً مشمولاً بتلك النورانية التي يستشعرها المؤمنون بها وهم يعيشون زمنهم الخاص في تلك الروضة الدنيوية وكأنها روضة أخروية من رياض الجنة؟ هل ستنقل تلك الروضة كما هي الى الجنة المخلدة في سماء الله لتحل مكانها وتكون ذكرى من الدنيا الزائلة في سرمدية الجنة الخالدة؟ أم أن المعنى الذي قصده نبي البلاغة وسيد القول عليه الصلاة والسلام أن العيش في خضم هذه الروضة الإيمانية سيؤدي بالمؤمن أخيراً الى الجنة فعلاً؟ *** تكاثرت التفسيرات لكن الجنة واحدة وعرضها السماوات والأرض، فلمَ لا تكون هذه القطعة الصغيرة في المساحة التي أقف عليها الآن هي من نصيب الأرض في تلك الجنة السابغة عرضاً وطولاً على السماوات والأرض؟ أنا الآن أقف فعلاً في تلك المساحة البينية، فلأصلِّ إذن تلك الصلاة التي كنت أعرف أنها مميزة جداً، ومضاعفة مرات ومرات، فالنبي صلى الله عليه وسلّم قال: "صلاةٌ في مسجدي خيرٌ من ألفِ صلاةٍ فيما سواه إلا المسجدَ الحرامَ". *** صليت صلواتي، ولا أتذكر ما قرأته من آيات ولا عدد الركعات. لكنني حرصت على أن تكون ركعتين في كل صلاة، ولا أدري ما مر عليّ من وقت وأنا أصلي لكنني فهمت لاحقاً أنه لم يكن طويلاً جداً، ربما أقل من ساعة قبل أن أضطر تحت إلحاح السيدات اللواتي ينظمن المكان ويشرفن عليه، للانسحاب من الروضة والمساهمة في إتاحة المزيد من المساحة فيها للمصليات القادمات تواً. ابتعدت قليلاً عن المكان، واخترت واحدة من الأسطوانات الفارعة التي تنتشر بهندسة منظمة وبسيطة في فضاء المسجد المهيب لأجلس بجانبها، يفصلني عنها صندوق خشبي صغير فهمت أنه موضوع لحفظ الأحذية فيه. مددت يدي لرف دائري يحيط بالاسطوانة كجزء منها لأتناول مصحفاً من المصاحف المرصوصة عليه بترتيب. فتحت المصحف الشريف من بدايته؛ من صفحته الأولى لأقرأ الفاتحة كاملة. *** هل قرأت الفاتحة سابقاً من المصحف؟ هل قرأتها في غير الصلاة؟ لا أتذكر أنني قرأتها من المصحف منذ زمن طويل جداً. الآن أريد قراءتها بهدوء شديد، بتؤدة واطمئنان. أريد أن أقف عند كل آية من آياتها، أريد أن أتدبر كل مثنى من السبع المثاني، لأقف عند قوله تعالى في سورة الحجر "وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ"، فها هي السبع المثاني أمامي في صفحة على يميني من المصحف، وبقية القرآن العظيم كله على يساري من المصحف. ألهذا السبب وردت في آية سورة الحجر معادلة لبقية سور القرآن كله، مع أنها منه؟ أسئلتي بلا إجابات كالعادة. *** كم أنا مقصرة في حق نفسي، كم هجرتك يا قرآن مكتفية ببضع أيات مما تبقى لي من حفظي القديم لأكررها في كل صلاة؟ في طفولتي ومراهقتي حفظت أجزاء كثيرة كاملة من القرآن الكريم، وكنت أشارك في المسابقات المدرسية لحفظ القرآن وأفوز فيها. وما زلت أحتفظ بالميدالية الذهبية والمصحف الفخم والشهادة التقديرية وكلها كانت جائزتي في إحدى مسابقات حفظ القرآن وأنا في المرحلة الثانوية من المدرسة. أين ذهبت السور الطوال التي كنت أحفظها حفظاً متقناً؟ كيف تسربت الآيات من ذاكرتي على مدى السنوات السابقات من دون أن أشعر بذلك؟ لماذا لم أكن أراجعها للاحتفاظ بها كنزاً للذاكرة وخضرة للروح؟ واضح أنني اكتفيت ببضع سور كاملة، وبضع آيات من سور مستلة من سور أخرى لأردد أيسرها في كل صلاة. *** ما أقساني على نفسي! وما أبخلني على روحي! *** لم أكن قد بدأت القراءة بعد وأنا أراجع كل هذه الأفكار والخواطر داخل نفسي. بعدها بدأت: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ.صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّين". *** انتهيت من تلاوة الفاتحة، في فترة هي الأطول التي استغرقتها تلاوة الفاتحة في حياتي على ما أتذكر. لا أعرف الوقت الذي مضى وأنا أتلو فيه هذه السورة بمثانيها السبع تحديداً لكنني استشعرت مضيه الطويل بمجرد الإحساس بالطمأنينة وهدوء الحركة قليلاً، قليلاً فقط، من حولي. *** أتتني واحدة من رفيقات الرحلة بكوب صغير من ماء زمزم الذي تحيط أوانيه الحافظة للحرارة بالمكان في ترتيب ملحوظ. شربته وطلبت منها كوباً آخر وأنا أبتسم لها وأشير الى أنني متعبة قليلاً. كان التعب قد حل بجسدي أو أنني لم أستشعره إلا في تلك اللحظة. تذكرت أننا لم نرتح أبداً منذ الصباح عندما خرجنا من مكة المكرمة، وأنا تحديداً لم أكن من أولئك الذين يستسلمون للنوم في الحافلات مثل الكثيرين حولي. لم أكن أنام إلا قليلاً. لكنها عادة أزلية لا علاقة لها بهذه الرحلة حتى وإن تضاعفت ساعات الصحو فيها. ردت عليّ الرفيقة قبل أن تنسحب لتأتي لي بكوب آخر من ماء زمزم: "إن لبدنك عليك حقاً". لكن حق بدني هو أن أوفر له ما يحتاجه كما أظن. فكرت في نفسي وأكملت: بدني يحتاج الصحو غالباً، وهذا حقه، ولن أقصر فيه في سبيل ساعات إضافية من النوم. ياله من تفسير عجيب لكن يرضيني نفسياً، على الأقل حتى لا أشعر بتأنيب الضمير. شربت كوبي الثاني من ماء زمزم البارد ونهضت بمساعدة رفيقتي لأنضم لبقية رفيقات الرحلة منسحبات من جو المسجد النبوي الشريف، مبهورات بما يحدث لنا. بعضنا للمرة الأولى، وبعضنا للمرة الثانية، وواحدة لمرات كثيرة جداً كما أخبرتنا. كانت هذه الواحدة تختلف عنا في المذهب، فقد أخبرتني في وقت سابق أنها شيعية، وبينت لي بعض التفاصيل التي تختلف فيها عنا أثناء أدائها لشعائر الحج والعمرة عادة. ليست كثيرة ولا مهمة على أية حال تلك التفاصيل، لكن معرفتي بأنها شيعية جعلني ألاحقها في كل الشعائر عن الاختلافات بيننا. وكانت تجيبني بشروحات مفصلة غالباً. هنا في المسجد النبوي لم تكن الاختلافات موجودة كما يبدو. فلا شعائر قدسية محددة للزيارة ولا فروض واجبة. خرجنا من البهو الأولى للمسجد ثم الأوسع الى أن أصبحنا خارج المسجد تماماً. أشارت إحداهن إلى مكان قريب وقالت إنه البقيع وعلينا زيارته.. الآن. *** نعرف أن البقيع هو مقبرة سكان المدينة المنورة منذ عهد النبوة، وأنها تضم رفات الكثيرين من الصحابة وبعض أمهات المؤمنين زوجات النبي الكريم عليه الصلاة والسلام والتابعين، ونعرف أن أحاديث كثيرة وردت في فضل زيارتها، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج من آخر الليل إلي البقيع ويقول؛ "السلام عليكم دار قوم مؤمنين وآتاكم ما توعدون غداً ونحن بكم إن شاء الله لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد".. وزيارتنا كلها تمضي في سياق الصلاة في مسجده النبوي والتأسي بسيرته المضيئة. لا بد من البقيع إذن..! اتجهنا للبقيع رغم احتجاج البعض منا بسبب تأخر الوقت وحاجتنا للعودة إلى الفندق، اتفقنا أخيراً أنها ستكون مجرد إطلالة سريعة جداً، وسنستكملها صباح الغد إن شاء الله. وهكذا فعلنا. اتجهنا لأقرب جدار وجدناه أمامنا يشير إلى البقيع بباب مغلق ولافتة مكتوب عليها مركز هيئة البقيع. تمادينا قليلاً في سيرنا نحو المكان. ووقفنا منهكات لنلقي التحية التي تحفظها واحدة منا فرددناها وراءها: "السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله بكم للاحقون". *** كانت إحدانا قد افترشت المكان جلوساً من شدة إرهاقها وما أن انتهينا من السلام حتى علقت بطرافة: "سأكون أول اللاحقين، والآن فوراً إن لم نعد للفندق حالاً". امتعضتْ أخرى من تلك اللغة الطريفة التي استخدمتها رفيقتنا المتعبة ببراءة، ولامتها عليها بحجة أننا نقف في سياق المسجد النبوي كله، وفي حضرة النبي الكريم، فلا ينبغي أن نترخص في استخدام مثل هذه التعبيرات. لم نسترسل في النقاش، بل خرجنا من المكان كله متجهات إلى الباب، بعد أن التقطنا بعض الصور الفوتوغرافية ونحن نمشي في فضاء تلك الساحة الساحرة. *** كان الوقت متأخراً نسبياً في عمق الليل، لكنه لم يكن يبدو كذلك في انشراح الجو الجميل والأمان الذي نستشعره ونحن نمر بمن يجلس، ومن ينام، ومن يصلي، ومن يأكل، ومن يشرب، ومن يتلو من مصحفه، ومن يصور، ومن.. ومن.. ومن يعيش لحظاته الآمنة تلك بهدوء بدد الأصوات كلها في اتساع المكان. *** وصلنا لباب السلام، وعبرناه نحو فندقنا القريب مشياً على الأقدام، واستغربنا أن المحلات الصغيرة المحيطة في المكان ما زالت مفتوحة، وبضائعها التقليدية التي نعرف الكثير منها جيداً تنادي المارين بإغراء. لابد من زيارة لهذه المحلات إذن في الصباح لشراء الهدايا والتذكارات. اتفقنا على ذلك، ونحن في المصعد متجهات للغرف العلوية من الفندق. *** أغمضت عيني وأنا لا أكاد أصدق كل أحداث ذلك النهار الطويل الجميل الجليل. تسربت نسمة هواء باردة جداً من شق النافذة المواربة وداعبت حلمي اليقظ. تنبهت قليلاً وتنفست بعمق كأنني أريد أن أستهلك تلك النسمة كلها وأحشرها في صدري. أغمضت عيني مرة أخرى. قرأت آية الكرسي.. ونمت. *فصل من كتاب :هذا الجناح جناحي للكاتبة سعدية مفرح *خاص بالرياض بوست