لا تنتج الأمم المتحدة الحلول، لم تفعلها يوماً، خصوصاً في هذه البقعة المتفجّرة من الكوكب التي تُدعى العراق، ومع هذا فالمنظمة الدولية تحاول منذ شهور إعادة إحياء مبادرة للمصالحة الوطنية في العراق، فتجمع أوراق مطالب من السنة والشيعة والكرد، وتصنّف هذه المطالب على أمل عقد لقاء تسوية ما. الموظفون الأمميون الذين يكثّفون لقاءاتهم خلف الكواليس هذه الأيام، مع الأحزاب المختلفة ورجال دين وزعماء عشائر وبعثيين سابقين، اكتشفوا ولا ريب وهم يطالعون عشـــرات الخـــطوط الحمر المتبادلة بين العراقيين، أنهم يلعبون خارج الساحة المخصصة، التي يــحرس مرماها لاعبون إقليميون خشنون، ويتحـــرك فيها لاعبون دوليون أكثر خشونة. لن يستاء بان كي مون بالتأكيد حين يقال له إنك وأفراد فريق عملك لم تكونوا أبداً حكاماً لمباراة تخاض منذ سنوات بلا قوانين، وإن المجموعات السياسية التي صدقت امتلاكها مفاتيح بلاد ما بين النهرين، تخوضها من على المدرجات فقط! يصعب تصديق حجم الإنكار العراقي للواقع، وهذا الإنكار يتحوّل الى طلاسم ودروشة في أوراق مطالب تجمعها منظمة معنية بالدرجة الأساس، بتوفير مرتبات موظفيها وإعداد دراسات أرشيفية حول ما حدث، قد تكون مفيدة كشهادة للباحثين بعد حين. لا يمكن الكشف عن «أسرار» الأوراق العراقية المقدّمة حتى الآن، بما أنها أسرار في نظر جامعيها، لكن ما يمكن كشفه أن تلك الأوراق لا تدرك في الأساس جوهر المشكلة العراقية، ولا تغوص في الأزمة لتكتشف حجم الدم المراق، ولا تتمعّن في الخريطة لتكتشف أنها ما عادت كما كانت، ولا تقدّر أن الزلازل العراقية تجاوزت مفردات المصالحة بالطريقة التي فهمتها الأطراف العراقية طوال السنوات السابقة. يرفض الآباء المؤسسون للعملية السياسية في العراق، الاعتراف بأن اتفاقات واشتراطات وخرافات عام 2003 لم تعد قائمة اليوم إلا في البرامج التلفزيونية المكررة، وأن على الأرض واقعاً يقول إن تلك العملية لم يعد بإمكانها التقدم خطوة واحدة أخرى الى الأمام. يرفض هؤلاء الاعتراف بأن الغنيمة التي جاهدوا لاقتسامها قد قسّمت بالفعل، والمطلوب اليوم إعادة إنتاج شاملة لعقد اجتماعي جديد يؤسس على أربع مبادرات جوهرية هي: الاعتراف بالواقع، وإبرام عقد تعايش صعب في ضوء هذا الواقع يحفظ دم العراقيين ويتيح الأمل بحلول أكثر وطنية تنتجها الأجيال القادمة، والذهاب الى دول الإقليم لإقناعها بالحفاظ على الحدود مع تغيير قوانين اللعبة والتوقف عن العبث بمغارة علي بابا المرعبة، والاستحصال على توافق دولي على حفظ التوازنات العراقية التي ينتجها الاتفاق. بهذا المعنى، ليس ثمة أي معنى لوضع المكونات العراقية شروطاً على بعضها، وليست ثمة ضرورة للحديث عن الماضي والغوص فيه، كما ليس من الممكن أن يختار كل طرف من يعجبه للتفاوض معه، بقدر الحاجة الى الاعتراف بأن العراق في معرض إبرام عقد اجتماعي قد يكون الأخطر في تاريخه، وأن الفرصة متاحة للحفاظ على ما يمكن من هذا البلد، ولكن عبر قرارات مصيرية تزداد قسوة وألماً يوماً بعد آخر. الفرصة متاحة، لأن «الجميع» بدأ يشعر بصعوبة السيطرة على تضاعف رياضي مرعب في حجم المخلوق المصنع مختبرياً الذي اسمه «داعش». حتى أولئك المغامرون الإقليميون والدوليون الذين فاتهم أن مفهوم الحرب بالنيابة وتبادل الأدوار قد ولى الى غير رجعة، وأن معادلات العالم الجديد تتطلب تغييراً شاملاً في فهم نتائج النظريات الثقافية والسياسية والاقتصادية الكبرى. المشكلة في كل الأحوال في الأولويات، فعندما تسبق الحرب على «داعش» إبرام ذلك العقد، سيكون على المتعاقدين انتظار نتائج هذه الحرب، من سينتصر ومن سيخسر؟ كيف تخاض الحرب وبأية أدوات؟ ما حجم الدم المراق فيها، والذي ستتورط فيه الطوائف لعقود؟ وما نتائج الحروب المترابطة في المنطقة؟ والأهم، من سيكون الطرف المفاوض بعد هذه الحرب، وهل ستختلف شروطه غداً عن الشروط التي يطرحها اليوم؟ وعندما تؤجل الحرب الى ما بعد إبرام العقد، سيهدر العراقيون والموظفون الدوليون سنوات من النقاش والجدل، وسيخوضون في التفاصيل والتأويلات والنصوص والشعارات حتى يملّوا منها وتملّهم، وفي تلك الأثناء يكون «داعش» قد أوجد نظامه العميق غير القابل للإفناء في العراق وسورية ومعظم الشرق الأوسط، وسيكتشف المفاوضون ومعهم الأمم المتحدة ودول المنطقة والعالم، أن عليهم التعامل مع خريطة أخرى غير تلك التي بدأوا النقاش حولها. ولأنها معضلة مركّبة فإنها تحتاج الى حلول مركّبة، ومن ضمنها أن يبرم الاتفاق المحلي والإقليمي والدولي حول الحرب وموازين القوى وحول المستقبل معاً، ولكن لن يكون بالإمكان تمرير هذا الحل قبل أن يقتنع الجميع بجدواه، وقبل أن يستنفد الجميع قواه وموارده في محاولة إثبات قدرته على فرض حلول أخرى. بان كي مون لن يصارح العراقيين بذلك، ما داموا غير مبالين في الأساس. سيتحدث الى الأطراف المتنازعة عن كل شيء إلا الحقيقة، وسيبحث تعديل قوانين اجتثاث البعث بعد أن تجاوزها التاريخ، وبناء جيش وطني لم يعد يعترف به أحد، والنفخ في عملية سياسية انهارت على الأرض. هل يفكر الأميركيون في شكل مختلف؟ هل يمتلكون خريطة ما لطريقة إبرام العقد العراقي بالتزامن مع الحرب؟ لا تشير الوقائع الى ذلك، فالتخبط الأميركي واضح منذ اللحظة الأولى لظهور «داعش» المدوي، على رغم أن ظهوره تم تحت أعينهم بطريقة أو أخرى، لكنهم على أية حال يبحثون في الكواليس قضايا أخرى غير «المصالحة»، بينها إيصال القوى العراقية الى قناعة أولية بأن «داعش» لن يفنى في حرب عسكرية من أي طرف كان وبأية أسلحة كانت، وأنه لن يضعف بجلسات مصالحة وتبويس لحى، وأن الحرب الشاملة تتطلب وقتاً أطول بكثير من توقعات أكثر المنجّمين تشاؤماً. على العراقيين الذين أجهدوا أنفسهم خلال الشهرين الماضيين في تقديم أوراقهم للمصالحة الوطنية، أن يعيدوا النظر فيها، وأن يعيدوا النظر في الأساس بأي اتفاق بروتوكولي يبرم برعاية الأمم المتحدة، وأن يمنحوا أنفسهم فرصة التفكير بشجاعة لوضع ملامح عقد اجتماعي يصمد للمستقبل.