أسس تولستوي للأدب الروسي (والعالمي) الرفيع. قلّّده وتتلمذ عليه كبار الروائيين. وضع قواعد السباق وتركهم يعدون. لكنه أسس أيضًا مدرسة لم يغامر أحد بالانتساب إلى صعوبتها من كبار الروائيين والشعراء. تلك هي مدرسة عمل الخير بلا حدود. ورث الكونت النبيل ثروة لا تقدر، فقرر أن يحوّل كل دخل فيها إلى الفقراء.. فتح لهم المدارس، وأقام المستشفيات، ووزع الأموال. وانضمت إليه زوجته وابنتاه في إدارة الأعمال الخيرية، وروت إحداهما أنها دخلت إلى إحدى تلك المدارس فرأت أطفالاً في زاوية القاعة يضربهم وباء الجدري، فنادت على أمها تسأل ما العمل، فقالت الكونتيسة إنه يجب نقلهم إلى مكان معزول لكي لا يضرب الوباء بقية التلاميذ. وإذ درسوا الإمكانات، تبين أن جميع بيوت القرية مصابة، فقالت المعلمة عند ذلك: «دعوهم هنا، فعلى الأقل يموتون وهم دافئون». تلك كانت روسيا القرن التاسع عشر. وإذ أقرأ في سيرة حديثة بقلم «روزاموند بارليت» يُخيل إلي أن الرجل الكبير كان يؤدي للناس أكثر من الدولة.. ليس فقط المال، بل خصوصًا وقته الذي كان بلا ثمن. ومن أجل مساعدة التطوع، كان يقوم بنفسه بأعمال التدريس، وعندما لمع اسمه في الداخل والخارج، استغل شهرته لكي يطلب التبرعات التي جاءته من كل مكان. وكان يحرص على تسليم المتبرعين بيانات مفصّلة بكيفية توزيعها. وتبقى حياة الكونت تولستوي، صاحب «الحرب والسلم»، أهم وأعمق ما ألف وما وضع. ولا يمكنني قراءة شيء من أعماله إلا ويحضر أمامي كبطل، لا كسرد. كان هلعه من القيم التي لم يهزمها أحد ولا شيء. وكان كتلة من الحيوية التي صُرفت جميعها في سبيل الآخرين. وما هذا التكوين الشجاع والنبيل؟ وكانت زوجته تخاف دائمًا أن تصاب العائلة بالخراب والإفلاس، أما هو فمضى يعلن أن المفلس هو الذي لا يملك قلبًا طيبًا وكفًا مبسوطة. شعر بالحسد له والحقد عليه الروس الصغار. حاول الحزبيون طمس أعماله التي «لا شيء أمام أعمال لينين». طوال المرحلة السوفياتية عوملت حياة تولستوي كشيء ثانوي، وسُلّمت مؤلفاته إلى مفوضيات الحزب وعقم المفوضين. ومع ذلك، رفرف بأجنحته العملاقة فوق آداب العالم. وكلما كانت موسكو السوفياتية تعلي أسوارها، من داخل ومن خارج، كان الأدب الروسي في الغرب يعلو فوق الآداب الأخرى، رافعًا مجموعة أسماء من عمالقة الأدب والشعر، يتقدمهم دائمًا وأبدًا، هذا الإنسان الخارق المشاعر والفائق الموهبة. أيها الكونت، اسمح للبسطاء أن يعلنوك أميرًا