في منطقة ما، من مناطق الكويت العاصمة، سوف تشعر لأول وهلة، وكأنك وسط مدينة طبية متكاملة، من كثرة عدد المستشفيات والمراكز الطبية، التي ستراها تحيط بك، من كل اتجاه.. ولكن.. سرعان ما سوف يتضح لك، كما سوف أشرح حالاً، أن القصة تصلح مدخلاً إلى فكرة غائبة في حياتنا، كعرب، ولا بد أن تحضر.. لا بد! فهذا، مثلاً، مركز الشيخ سالم العلي لعلاج أمراض النطق والسمع، وهذا إلى جانبه، مركز الشيخة بدرية الصباح، لعلاج أمراض السرطان، وإلى جوارهما، مركز سعود البابطين، لعلاج الحروق.. وهكذا.. وهكذا، إلى سائر عشرات المراكز من هذا النوع، والتي سوف تجعلك حتمًا تسأل عن أصل الحكاية! كنت، وأنا أتجول في تلك المنطقة يومًا، في رفقة الشيخة بيبي اليوسف الصباح، قد ظننت من جانبي، عند النظرة الأولى، أن الحكومة هناك قد أطلقت هذه الأسماء التي ذكرتها، والتي لم أذكرها، على المراكز والمستشفيات، من باب تكريم صاحب هذا الاسم، أو ذاك!.. ظننت هذا، كما قد يظنه أي زائر عابر للكويت. ولكن.. سرعان ما أفقت على صوت الشيخة بيبي، وهي تبيّن لي، أن ما ظننته غير صحيح، وأن الذي أنشأ تلك المراكز العلاجية، هم أصحابها أنفسهم، وبأموالهم الخاصة، وأنهم، بعد أن أنشأوها وجعلوها جاهزة لاستقبال مرضاها، أهدوها كاملة للدولة، تتولى هي إدارتها، وتتولى تنظيم العلاقة بين أي مركز منها، وبين مرضاه! في مصر، كان عندنا زمان، فكرة كهذه، وكانت تتجسد تارة في مستشفى المواساة بالإسكندرية، التي أنشأها جدّ الدكتور عصمت عبد المجيد، الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، ثم تارة أخرى في مستشفى قصر العيني الشهير في القاهرة، وهو مستشفى كان «العيني باشا» قد أنشأه في وقت من الأوقات، ثم تارة ثالثة في مستشفى سيد جلال، في العاصمة أيضًا. كان هذا عندنا، إذن، زمان، وكانت هذه هي دلائله، وهي تجلياته، ولكن السؤال ليس عن زمان، وإنما عن اليوم.. السؤال يبقى في وقتنا الحاضر عن فكرة ممتازة كهذه، أين هي في حياتنا جميعًا كعرب، وأين تجلياتها ليس في القاهرة وحدها، ولكن في كل عاصمة عربية، دون استثناء.. والفكرة هي كالتالي: كيف يمكن للمال الخاص، أن يسهم مع الدولة، في تقديم ما يستطيع تقديمه للمواطنين، خصوصًا في ميادين الخدمات العامة التي لا بد أن يتلقاها المواطن العربي، بجودة عالية، وبمستوى آدمي يليق به كإنسان.. وعندما أحصر الأمر، في حقل الخدمات العامة، فإنني أريد أن أزيده حصرًا، ليكون في التعليم، ثم التعليم، ثم التعليم، ومن بعده الصحة، ثم الصحة، ثم الصحة! وقد وددت لو أني استطعت أن أكرر هاتين الكلمتين، عشرات، بل مئات وآلاف المرات، لعل أصحاب المال الخاص، أو القادرين بيننا بمعنى أدق، يدركون أن عليهم دورًا مهمًا في مجتمعاتهم، وأن مالهم الخاص لا أحد ينازعهم فيه، ما دامت وسائل الحصول عليه كانت وسائل مشروعة، ولكننا فقط، نعيد تذكيرهم بأن هذا المال تقع عليه مسؤولية اجتماعية كبرى في مجتمعه، لا يجوز نكرانها، ولا التنصل منها، ولا الهروب من تبعاتها! لقد تمنيت، عندما أنهيت زيارتي لتلك المنطقة في الكويت العاصمة، لو أني وجدتها حاضرة في كل عاصمة، ولو أنها شاعت وانتشرت بين عواصم العرب، انتشار العدوى، وتمنيت لو أن كل صاحب مال، أو كل قادر، قد أدرك من تلقاء نفسه، أنه لا بد أن يؤدي شيئًا ما، تجاه بلده، وأنه ليس في حاجة إلى دعوة من أحد، لكي يؤدي هذا الدور، بمثل ما إن مقتدري الكويت، لم يكونوا في حاجة إلى دعوة من أحد، ليقيموا تلك المدينة الطبية النادرة، ثم ينقلوها إلى الدولة. إننا نتحدث كثيرًا، عن المسؤولية الاجتماعية لرأس المال في بلده، ونضرب أحيانا المثل برأسمال ينهض بهذه المسؤولية، ليس في داخل بلده وفقط، وإنما خارجه وبعيدًا عن حدوده، كما كان يفعل بيل غيتس ولا يزال، وكما كان يفعل رفيقه «وارين بافيت» ولا يزال، فكلاهما عالج بأمواله أمراضًا في أفريقيا، وساعد تعساء في غير أفريقيا، حول العالم كله، وليس فقط في داخل الولايات المتحدة، التي يحملان جنسيتها! هذه دعوة صادقة مني إلى كل قادر عربي، بأن يأخذ تلك الفكرة الكويتية الراقية، فيترجمها في بلده، وفي صالح أبناء وطنه، وفي المجالين اللذين ذكرتهما تحديدًا، فليس أحوج من الإنسان العربي، إلى مدرسة عصرية، يتعلم فيها ابنه، ما يجعله ابن زمانه، لا ابن زمان مضى، ثم إلى مستشفى عصري أيضًا، يشعر فيه أيضا إذا أحوجته الظروف إليه، بأنه إنسان!