تمنيت لو أن العرب والمسلمين عبروا عن غضبهم لمقتل المسلمين الثلاثة فى الولايات المتحدة بمقدار يعادل ربع الغضب الذى أعلنوه حين قتل اثنان من المسلمين ١٢ من الفرنسيين العاملين فى مجلة شارلى ابدو. لم اتطلع إلى حملة غضب مماثلة، سواء كانت مسيرة كبرى يتقدمها زعماء العالم، أو تغطية إعلامية واسعة النطاق تسبر الأغوار وتتحرى الخلفيات، أو تصريحات لكبار المسئولين تتنافس فى الاستنكار وتدعو إلى التدبر والمراجعة، أو بيانات للمؤسسات الدينية تعلن البراءة من الجريمة وفاعليها. لم أتوقع شيئا من ذلك، لأن القتلى مسلمون من ذوى الدم الرخيص فى بورصات السياسة العالمية، ولأن القاتل أمريكى ينتمى إلى الجنس الأبيض موفرر المكانة ومغفور الذنب، ولأن الإعلام الغربى فى مجمله ما عاد يجد فى قتل المسلمين خبرا مثيرا، بعد كل الدم الذى لم يتوقف عن النزف فى بلادهم. ناهيك عن انهم فى أوروبا يستنفرون هذه الأيام للتخلص من المسلمين بأى وسيلة، بدعوى أنهم باتوا يهددون هوية القارة. لهذه الأسباب فقد استبعدت فكرة التماثل فى الأصداء، ووجدت ان المقاربة العددية قد تؤدى الغرض. فقلت انه إذا كان قتلى الفرنسيين ١٢ شخصا، والمسلمون الذين قتلوا ثلاثة فقط، فربما كان مفهوما ان يكون نصيب الأخيرين من الغضب ربع حظ الأولين، ولأجل ذلك أبديت استعدادا لغض الطرف عن ان الفرنسيين لهم سجلهم الحافل بالطعن فى نبى المسلمين وعقائدهم، الأمر الذى يشكل إهانة للضمير المسلم ما كان ينبغى أن يرد عليها بقتلهم. كما غضضت الطرف عن سجل المسلمين الثلاثة يسر ورزان وضياء، الذين شاهدنا صورهم وهم يوزعون الطعام على الأمريكيين الفقراء. وقرأنا عن إسهامهم فى جمع التبرعات للاجئين السوريين، وفى غير ذلك من أنشطة الإغاثة والبر. الشاهد أننى تفهمت تواضع ردود الأفعال فى الولايات المتحدة وأوروبا. واقتصارها على فاعليات نظمها زملاء القتلى فى كارولينا الشمالية وأعضاء الجاليات الإسلامية فى الولايات المتحدة وأوروبا، إضافة إلى حملات التضامن من جانب أعداد من المواطنين الغربيين العاديين الذين لايزالون يحتفظون بيقظة الضمير ونقاء السريرة. فى حين ان البعض الآخر حاول التستر على الجريمة بدعوى ان الكراهية لم تكن سببا لها، وانما كان سببها عراكا حول مكان إيقاف السيارات. أيا كان رأينا فى ردود الأفعال الغربية فإنها تظل مفهومة، أما غير المفهوم وغير المبرر فهو التواضع الذى اتسمت به الأصداء فى العالم العربى على الأقل. فنحن بإزاء جريمة بشعة أنهت حياة ثلاثة من الشبان الأبرياء، الذين امتدحهم جيرانهم وكل من عرفهم، ولم يكن هناك سبب لقتلهم سوى كراهيتهم باعتبارهم مسلمين. فى تفسير محدودية ردود الأفعال العربية خطرت لى عوامل عدة. منها أن المسيرة الكبيرة التى شهدتها باريس إثر مقتل الفرنسيين الاثنى عشر دعت إليها الحكومة وتقدمها رئيس الجمهورية. وهو عامل ليس متوافرا فى الحالة التى نحن بصددها. وفى حدود علمى فإن السلطة فى رام الله لم يصدر عنها شىء يستنكر عنصرية قتل الفلسطينيين الثلاثة. من تلك الأسباب أيضا أن أغلب أقطار العالم العربى تعيش حالة شديدة من الانكفاء على الداخل، حيث لكل قطر معركته الخاصة، الأمر الذى أدى إلى تراجع أولوية الهموم القومية. من تلك الأسباب أيضا أننا لم نعد نلمح وجودا يذكر للغضب العربى الذى تمنيته فى قاموس الأنظمة العربية المعاصرة. فما تفعله إسرائيل من تهويد وافتراس فى القدس وفى الأراضى الفلسطينية المحتلة ما عاد يغضب أحدا، وكذا تدمير غزة وتجويعها وخنقها بالحصار. وعربدة الطائرات بغير طيار فى اليمن التى ما عادت تبالى بقتل الأبرياء مقابل اصطياد واحد من المطلوبين، وهو ما بات أمرا مقبولا يتم بموافقة بعض الحكومات. وبراميل المتفجرات التى أصبحت تلقى فوق رءوس السوريين الذين قتل منهم أكثر من ٢٠٠ ألف، هذه بدورها أصبحت أخبارا عادية. مثل تلك الجرائم الكبرى ما عادت تفجر شيئا من الغضب. فى مثل هذه الأجواء التى تعتبر فيها المذابح وحملات الإبادة أمورا مألوفة وغير مستغربة، فإن قتل ثلاثة من المسلمين فى الولايات المتحدة لأسباب عنصرية يكاد يفقد أهميته. لدى سببان آخران أخجل من ذكرهما، أحدهما يتعلق بكرامة وقيمة الإنسان فى العالم العربى، والثانى يخص عقدة النقص الشائعة فى بعض أوساطنا أمام الغرب والغربيين. ولأن القيمة سابقة الذكر متواضعة إلى حد كبير لأسباب لا تخفى على فطنتك، فى حين أن قيمة المواطن الغربى لاتزال تحتفظ بمكانتها الرفيعة، سواء فى نظر حكومته أو فى نظر أنظمتنا، فإن ذلك له انعكاساته على الحالة التى نحن بصددها. أعنى أنه يبرر اللا مبالاة وعدم الاكتراث بمصير الأول، فى الوقت الذى يفسر الغضب والاستنفار لأى مكروه يصيب الثانى خصوصا إذا كان مصدره عربيا أو مسلما. لم يشفع للمسلمين الثلاثة الذين قتلوا فى الولايات المتحدة أنهم يحملون الجنسية الأمريكية، لأن جذورهم العربية ــ الفلسطينية خصوصا ــ حسبت عليهم وكانت سببا فى تواضع أصداء الغضب جراء قتلهم. يرحمهم الله ويلهم أهاليهم صبرًا من عنده. *نقلا عن جريدة "الشروق" المصرية