2015-10-10 

الحرفة والزهور والموسيقى

علي سالم

أكتب عن مصر الليبرالية قبل ثورة 1952 ليس بهدف نصرة الماضي على الحاضر، ولا لأنتصر لعصر الاقتصاد الحر على عصر الاقتصاد الممسوك الشهير بالاقتصاد المخطط. وإنما أنا أدلي بشهادتي كشاهد عيان عاش المرحلتين وربما أكون المواطن الوحيد على قيد الحياة في مصر الذي أتيح له أن يوجد ويعيش ويعمل في العصرين. وهو ما أعطاني الفرصة لأرى جبال الجمال والخير في مصر وهى تتآكل، وتتحول على مر السنين مع الاقتصاد الممسوك إلى تلال من تراب الفقر والجوع والقبح. عندما كتبت منذ نحو ثلاثين عاما في مجلة الشباب المصرية عن فترة عملي في شركة أتوبيسات خطاب أرسلت لي طالبة بمعهد تجاري في مدينة المنصورة تقول: «أنا حفيدة أحمد خطاب صاحب شركة الأتوبيسات التي تكلمت عنها، ولقد حدثني أبي عنك وعن المرحلة التي تكلمت عنها، لقد أنقذتني يا سيدي، فزميلاتي لا يصدقن ما أقوله لهن من أن جدي كان يمتلك في دمياط شركة أتوبيسات تغطي الدلتا المصرية كلها.. شكرا يا سيدي» هذا هو المؤلم في الحكاية، لقد أنجب الاقتصاد الممسوك جيلا ممسوك العقل، يرى أن أي عمل في الدنيا هو من اختصاص الحكومة فقط، وأن الفرد المبدع القادر على صنع وإدارة مشروع نافع له وللناس، لا وجود له إلا في الحواديت القديمة فقط. صاحب العمل كان يسمى، رب العمل، تماما كما نقول ربة البيت، مما يدلك على مدى القداسة التي تتمتع بها الحرفة، أي حرفة وكل حرفة. يتضح ذلك بشكل واضح في احتفالات البلدية في دمياط بليلة الرؤية، رؤية هلال رمضان، مهرجان زهور لا يقل جمالا عن مهرجانات المدن الأوروبية، عربات نقل حدثت لها تعديلات فحولتها إلى خشبة مسرح، وكل نقابة عمالية تقدم مشهدًا شبه مسرحي يتناول مهنتها، سترى النجارين وعمال البناء وصناع الأحذية وبقية الحرف وهم يقومون بعملهم في زهو. كل هذه الزهور تحتضن أصحاب الحرف وتمشي في شوارع المدينة بين الناس الذين يتصايحون في فرحة، بينما تقود القافلة فرقة الموسيقى النحاسية. يا له من تكوين، الزهور والموسيقى والحرفة. أريدك أن تلاحظ، أنه عندما تختفي الحرفة أو تضعف، تتحول الموسيقى إلى ضجيج، وتذبل الزهور أو تختفي لتحل الزهور الصناعية محلها، وتغلق الحدائق أبوابها أو تنسحب تاركة مكانها لأكوام الزبالة. لكل مدينة في مصر كانت توجد فرقة موسيقية تقدم عروضها في «كشك الموسيقى» في الحديقة الرئيسية في المدينة في الأعياد والعطلات الرسمية. كانت تقدم الموسيقى الشعبية المصرية بالإضافة لمقطوعات عالمية. في الفصل الثالث في المدرسة الابتدائية، كان الأستاذ عبد المطلب أستاذ اللغة العربية يطلب منا أن يحفظ كل تلميذ عشرين سطرا كل أسبوع من أي كتاب يختاره هو، هذا هو أول تدريب عملي لي على حرية الاختيار. كنت أختار دائما سطورا من روايات الجيب. وهى سلسلة صاحبة فضل على جيلي، فبعد قراءة كل أعمال أرسين لوبين وأغاثا كريستي، قرأنا «ذهب مع الريح» لمرغريت ميتشل، و«الفرسان الثلاثة» لإسكندر دوماس و«البعث» لتولستوى و«الجريمة والعقاب» لديستوفسكي و«كل شيء هادئ في الميدان الغربي» لإريك ماريا ريمارك وغيرها.. قبل أن أعمل في الأتوبيس، كنت قد قرأت كل الروايات المترجمة إلى اللغة العربية.. كان يساورني إحساس غامض أنني سأمارس الكتابة يوما ما.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه