عناصر «داعش» في العراق بعثيون وخليجيون، ونظراؤهم في سورية عراقيون وأجانب. هكذا جاءت الفتوى الجازمة في أصل وفصل «الدواعش» وخلفياتهم وما يمثلون. المجتمعان العراقي والسوري واستطراداً المجتمعات الأخرى التي تنشط «الدولة الإسلامية» فيها، مجتمعات بريئة من الإثم «الداعشي». وهذه ليست إلا مؤامرة دُبرت في ليل أقبية الاستخبارات البعثية- الأسدية- الإيرانية. الروايات الكثيرة عن نشوء التنظيم وتحوله الى همّ وخطر رئيس يهدد ما تبقى من هياكل الدول في المشرق العربي، تغفل في الغالب الأعم عن تناول انتشاره وامتداده بين السكان والولاءات المحلية التي تحميه وترفده بالمال والمقاتلين والمخططين ومنظمي الحياة اليومية في مناطقه المترامية المساحات. تقول الخرافة إنه جهاز أمني هبط من مكان مجهول وفرض سطوته بالقتل والدم والإرهاب. دعونا نقرّ أن في هذه القصة أقل من نصف الحقيقة، وأن أبلسة التنظيم الشاملة وردَّ أفعاله وصعوده ونجاحاته وهزائمه الى فاعلين مجهولين ينطوي على نوع شديد الضحالة من نظريات المؤامرة ومن الروايات البوليسية الرديئة. جداول ضحايا القتل منذ أربع سنوات، تضع «الدولة الإسلامية» في مرتبة متواضعة عددياً مقارنة بنظام بشار الأسد مثلاً، لكنها تتقدم عليه في استعراض العنف وتأطيره «مشهدياً» والترويج له لغايات الدعاية السلبية المطلوبة بشدة من التنظيم. إذا سلمنا أن الآلاف من المقاتلين الأجانب من مشارق الأرض ومغاربها جاؤوا إلى العراق وسورية وانضموا إلى «داعش»، تنهض حينئذ مجموعة من الأسئلة الأصعب: أين كان سكان هذه المناطق عندما تدفق هؤلاء؟ ما موقفهم؟ لماذا لم يقاوموا؟ كيف تسنّى لبضعة آلاف من المسلحين الأجانب السيطرة على مناطق تمتد من الحدود العراقية السعودية إلى الحدود اللبنانية السورية (آخر التقديرات تتحدث عن 300 ألف كيلومتر مربع يسيطر عليها الخليفة أبو بكر البغدادي وأنها «تتمدد») ويعرف كل ذي بصيرة أن أراضي كهذه تحتاج إلى مئات آلاف الجنود المدربين لاحتلالها وتأمينها. النماذج التي ستقدم للقول إن السكان قاوموا من دون جدوى، على غرار ما حصل مع عشيرة الشعيطات، هي من نوع الاستثناء الذي يؤكد القاعدة. بكلمات ثانية، ما زال من مظاهر «راحة العقل» التهرب من مقاربة ظاهرة «داعش» مقاربة تأخذ في الحسبان الخلفيات الاجتماعية والسياسية بل والاقتصادية والثقافية لهذا النجاح الذي يتواصل منذ ثلاث سنوات والذي لا يبدو انه يواجَه بما يستحق من جدية في ما يتجاوز العمل العسكري. وتحصر «مراكز الأبحاث» الغربية قراءاتها إما على الجوانب الأمنية– المخابراتية أو على النواحي الفقهية في نشوء «الدولة الإسلامية». المقاربتان ناقصتان ولا تخدمان مشروع المواجهة ولا الحيلولة دون ظهور بدائل عن التنظيم، قد تكون أعنف وأكثر دموية، في حال نجحت محاولات القضاء عليه عسكرياً. حري بالباحث الجدي النظر الى الكيفية التي بدّل فيها تنظيم «داعش» جلده مرات ومرات في العراق منذ 2003 والالتفات إلى الأسباب التي توفر له بيئة حاضنة بين العشائر والفئات الريفية المهمشة والمسحوقة. وحري أيضاً الانتباه إلى قدرة هذه الفئات على تغيير ولاءاتها بين السلطات الآفلة وبين تلك الناهضة. مرة جديدة يصفع علم الاجتماع الواقع العربي. ويدفع المشرق ثمن كبت هذا العلم وقمعه على امتداد عقود طويلة. ليفاجأ العرب اليوم بصورة لهم لا يعرفونها ولم يهيئوا أنفسهم لتقبلها بعدما ناموا طويلاً في عسل الأيديولوجيات الخلاصية. ها هو علم الاجتماع يعود اليوم عودة المكبوت الفرويدي ليفرض نفسه كابوساً طويلاً لا ينتهي.