قبل أيام، تداول ناشطون مصريون خبر انتحار عازفة الناي والناشطة المصرية ندى سلامة. بعد ساعات نشرت ندى تعليقاً في حسابها بموقع «فيسبوك» تنفي خبر موتها، لكنها تحدثت عن محاولتها الانتحار مرات عدة خلال الأيام السابقة. كان التعليق طويلاً، ومحبطاً، ويائساً. لم يحمل ملامح واضحة شخصية أو سياسية. وقد كانت ندى قد ودعت صديقةً لها قبل عام، منتحرة. هي زينب المهدي، ولزينب قصة أقسى. زينب المهدي انتحرت في نوفمبر 2014. ولانتحارها قصة محبطة أشار إليها فهمي هويدي في مقالة نشرت في صحيفة الشروق في ذلك الوقت بعنوان: (أجراس انتحار زينب المهدي). فزينب – كما يسرد هويدي – كانت من نشطاء يناير، التي بعد فشل الثورة، قامت بتتبع ظاهرة مرعبة وجديدة في مصر تتلخص في اختطاف الناشطات المصريات واختفائهن لأيام في ظروف غامضة، ثم الإفراج عنهن في حال يرثى لها. سرد هويدي أسماء ناشطات تم اختطافهن، ثم تم إطلاق سراحهن، من دون أن يبالي بحالهن أحد. اختطاف الناشطين لم يكن حادثة معزولة بطبيعة الحال، فنشطاء ثورة يناير تفرقت بهم السبل إما خارج مصر، أو في سجونها، أو بالعمل داخل مصر في ظروف صعبة للغاية. كانت زينب تحاول تتبع ملف الفتيات المختطفات. لكنها انهارت، وقررت إنهاء كل شيء، وأرسلت لأحد زملائها رسالة تعبر عن إحباطها وثقل الملف الذي تحمل، كتبت زينب «تعبت.. استهلكت.. ومفيش فايدة»، رداً على سؤال أحد أصدقائها عن تطورات ملف الناشطات المختطفات. هذه الانهيارات ليست جديدة على الثورة المصرية. إذ نذكر كيف خرج وائل غنيم بعد أيام من ثورة 25 يناير باكياً منهاراً، متحدثاً بأنه لم يكن يعتقد بأن الدماء ستسيل على خلفية الثورة. وكأنه يدعو إلى عودة عقارب الساعة إلى الوراء ونسيان صفحة «خالد سعيد»، وكل النشاطات التي تتعلق بطلب العدل والتحرر من القبضة الأمنية لنظام مبارك. أو كأنه يعتقد بأنها فعلاً ثورة جاءت بسبب كتابات «فيسبوك»! لذا يشعر بالذنب. ربما كان الخلل في مكان آخر. فمن كان يتصور أن دماءً ستسيل بفعل ثورة سلمية؛ تطالب بالحرية والديموقراطية! راجع كل دول الربيع العربي لتعرف. الإحباط السياسي قاد كثيرون إلى الانتحار، منهم من سردت قصة انتحارهم بشكل تراجيدي في الذاكرة العربية. تيسير سبول شاعر أردني انتحر في 1973 على خلفية اجتماع القادة المصريين مع الصهاينة؛ لمباحثات وقف إطلاق النار بعد حرب أكتوبر. تيسير الذي تحدث مقربون منه عن إحباطه العظيم إثر نكسة حزيران (يونيو) 1967، كشاعر وناشط سياسي، لم يحتمل كل هذا، ليطلق النار على نفسه في نهاية تراجيدية. تشبه قصة سبول خاتمة شاعر عربي أخر، هو اللبناني خليل حاوي. إذ انتحر بإطلاق النار على رأسه بعد اجتياح القوات الصهيونية لبيروت في 1982. حاوي عاصر من النكبات والنكسات العربية ما يكفي، لكنه لم يحتمل اجتياح بيروت، إذ يرى بعينه، من شرفة شقته، الدبابات الصهيونية تدك المعقل الأخير لروحه. هؤلاء ليسوا سياسيين بالمعنى التقليدي. لم يولدوا في المطابخ السياسية ومناوراتها وألاعيبها. لم يتوقعوا خيباتها، ولم يكونوا على استعداد لتقبل أي هزيمة. ليست المسألة مجرد اعتراف بالهزيمة، بل تتعدى الاعتراف إلى التعايش مع استحقاقات وآمال لم تتحقق، بل ارتدت جحيماً على أصحابها، الذين طمحوا أكثر مما يجب، في عالم لا ينتقل إلا من بؤس إلى بؤس. ربما كان الساسة العرب أبعد ما يكونوا عن الانتحار. هل انتحر سياسي عربي؟! بعد ثورات الربيع العربي لم يترجل أحد من الساسة العرب مختاراً، ولا بعد أن هدرت الجماهير طالبة الخلاص. بل لم يمت أحدهم جراء صدمة أو جلطة في القلب، إثر سماع أهازيج «الشعب يريد إسقاط النظام». خرج الساسة مهددين بالويل والثبور، وبإحراق البلد، عوضاً عن التخلي عن كرسي الحكم. وهذا ما حدث حرفياً. حتى أصبح وجود دولة مثل ليبيا في علم الغيب، وأصبح بشار الأسد يكتفي بحكم أجزاء من دمشق، وربما ما لا يتجاوز ربع التراب السوري! . هؤلاء لم ينتحروا، لأنهم لا يبالون. فهم مستعدون حرفياً لحرق عشرات الآلاف من البشر؛ ليبقوا في مواقعهم. في مقابل أن أحد هؤلاء الناشطين المحتجين على السياسة في العالم العربي، البعيدين عن دهاليز السياسة وألاعبيها، غير قادرين على احتمال فقد صديق ناشط، فضلاً عن هدر دم مجموعة من البشر بالشوارع، أو الزج بهم في سراديب السجون. عوضاً عن نكوص أحلام التحرر إلى الاستبداد إلى كوابيس. الساسة العرب لا ينتحرون. وإذا انتحروا، فسيكون انتحارهم كانتحار غازي كنعان، المسؤول الأمني الكبير في لبنان إبان الهيمنة السورية، إذ يتداول السوريون واللبنانيون طرفة مفادها، أن غازي كنعان انتحر «بإطلاق أربع رصاصات على رأسه» كناية عن تصفيته من نظام الأسد. مضى الربيع العربي من انتحار إلى انتحار. من احتراق جسد محمد البوعزيزي إلى احتراق روح زينب المهدي. وبين الاحتراقين قصة ربيع لم يأت. من جريدة الحياة