«تستطيع أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، إلا أنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس لكل الوقت»، مقولات كهذه، ومنبتها حياة الفرد الخاصة ومجاله الأسرى وروابطه الاجتماعية والمهنية المباشرة التى أبدا لا تخلو من الصدمات النفسية والإحباطات العقلية، تستدعيها جماعيا الشعوب حين يتكشف لها غياب العدل والمساواة ومقومات احترام الكرامة الإنسانية عن بعض أو كل مناحى العمل العام. مقولات كهذه تستدعيها الشعوب حين تدرك حقائق الفساد، وتتابع مسارات الذبح المستمرة للمبادئ فى سبيل شهوتى السلطة والثروة. مقولات كهذه تستدعيها الشعوب حين تبتعد بفعل التناقض بين القول والفعل ضميريا وعقليا عمن يدعون استحواذهم على الحق الحصرى تارة للحديث باسم الإرادة الشعبية والصالح العام، وأخرى باسم القيم العليا والأهداف الوطنية، وثالثة باسم التغلب على التهديدات والأخطار والأزمات، ويؤسسون بذلك لحقوق حصرية أخرى فى الحكم والسيطرة والهيمنة. مقولات كهذه تستدعيها الشعوب حين يتهاوى قبولها لمتصدرى العمل العام والمجال العام من مزيفى الوعى الذين يزين لهم التكالب على المصالح والعوائد الشخصية أو الخوف عليها والسعى لحمايتها عبر الاصطفاف فى خدمة منظومة الحكم / السلطة الاستعلاء على كرامة وحقوق وحريات الناس، وتبرير انتهاكاتها، بما فى ذلك انتهاك الحق فى الحياة، على نحو ينزع كل قيمة أخلاقية وإنسانية عن الضحايا وربما ألصق بهم هم هوية الجلادين. شىء من هذا يحدث الآن فى مصر، ويرتب بين قطاعات شعبية تتسع باطراد خليطا من الحزن الصامت، والإحباط العام، والعزوف عن المشاركة داخل الأطر الرسمية كتلك المرتبطة بالتصويت فى الاستفتاءات والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، والبحث عن ملاذات فردية أو مساحات جماعية - والبحث عن مساحات جماعية هو تقليديا من سمات القطاعات الشبابية والطلابية والفعاليات العمالية والتنظيمات الوسيطة فى المجتمع المدنى - يمكن منها التعبير عن الرفض السلمى لنخب تغييب العدل والمساواة وانتهاك الحقوق والحريات، ولنخب المصالح والعوائد الشخصية ونخب تزييف الوعى والنفاق لحماية السلطة والثروة، ولسيطرتها على الأطر الرسمية والمجال العام، ملاذات ومساحات يمكن منها أيضا المطالبة بالتغيير السلمى. شىء من هذا يحدث الآن فى مصر، ويرتب بين قطاعات شعبية باطراد حالة من الانصراف الجماعى عن التوظيف المستمر من قبل منظومة الحكم / السلطة والنخب المتحالفة معها للمنصات الرسمية لإطلاق نظريات المؤامرة المتوهمة والاتهامات الزائفة بالخيانة والعمالة باتجاه معارضيها دون تمييز بين عصابات إرهاب وعنف تحمل السلاح وبين مواطنين مسالمين ينبذون الإرهاب والعنف ويتضامنون فى مواجهتهما تماما كما يرفضون المظالم والانتهاكات والفساد والاستبداد. يسترجع الناس وعيهم، ثم يوالون الانصراف عن نظريات المؤامرة المتوهمة والاتهامات الزائفة بعد أن أوغل مطلقوها فى «اللامعقول» لتبرير جرائم قتل سندس رضا وشيماء الصباغ وشباب «الوايت نايتس» ومظالم وانتهاكات أخرى، ولإعفاء السلطوية الجديدة من المسئولية. ويقينا، لن يوقف لا تكثيف توظيف نظريات المؤامرة والاتهامات الزائفة، ولا التمادى فى الإيغال فى «اللامعقول» من انصراف الناس. شىء من هذا يحدث الآن فى مصر، وتداعياته المباشرة هى العزوف المتوقع للكثير من الشباب والطلاب والعمال عن الانتخابات البرلمانية القادمة، وإتمام تشويه البرلمان الجديد باختزاله المتوقع أيضا فى المنضوين تحت عباءة «تأييد ودعم» الحكم / السلطة – أسجل هذا إدراكا لأهمية البرلمان القصوى وحزنا شخصيا على تشويهه دون تورط في استعلاء على المتجهين إلى المشاركة ترشحا وانتخابا. أما التداعيات غير المباشرة فهى أخطر؛ تصاعد الصراعات المجتمعية على وقع غياب القبول الشعبى لمن يدعون الاستحواذ على الحق الحصرى للحديث باسم الناس وهم يحكموننا ويديرون شئوننا بسلطويتهم الجديدة، وتراكم المظالم والانتهاكات وتراجع مقومات السلم الأهى للمجتمع ومقومات تماسك الدولة الوطنية بينما ثلاثية المواطن والمجتمع والدولة مطالبة بإخراج مصر من وضعية الوهن الراهنة بدولة قوتها فى عدلها ومحاسبتها للمتورطين فى المظالم والانتهاكات لكى تنجح فى مواجهة من يحملون السلاح ضدها، ومجتمع سلمه ونبذه للإرهاب وللعنف فى التنمية والتسامح واحترام التنوع والاختلاف دون تمييز، ومواطن تحققه فى صون كرامته الإنسانية. استفيقوا قبل فوات الأوان! *نقلا عن جريدة "الشروق" المصرية