وصل ثلاثة من رجال المخابرات إلى الكرسي الأولى في موسكو: يوري أندروبوف ويفغيني بريماكوف وفلاديمير بوتين. الأول والثاني لعبا دورًا جوهريًا في تحرير الروس من عصر القبضة الحديدية، بدل العكس. وبقدر ما نحن معنيون كعرب، أظهر أندروبوف طوال حياته الشيوعية، محبة شديدة لقضايانا، وأظهر بريماكوف في حياته الحزبية، ثم في حياته المستقلة، تفهمًا عميقًا للمشاعر العربية. تعرف بريماكوف إلى العرب تلميذًا في معهد الاستشراق. ولم يتوقف عن التعلم. وكمراسل لـ«البرافدا» تنقّل في المنطقة والتقى زعماءها، وحمل منهم وإليهم الرسائل الخاصة، وعرف صحافييها، كبارًا ومهنيين، وأصغى إليهم، وحاول دائمًا مساعدتهم في فهم الكرملين، الشيوعي وما بعد السوفيات. كان صحافيًا وأكاديميًا وحزبيًا وإصلاحيًا، تنقل في سلسلة من المناصب الأساسية، بدأت في «البرافدا» وانتهت برئاسة الوزراء، مرورًا بمديرية المخابرات، كرسي أندروبوف. وفي جميع المراحل كانت ميزته الأولى، التوازن والتواضع. هذا كان سرّ الرفيق يفغيني ماكسيموفيتش في عالم غامض مضطرب متحول وطافح بالصراعات الصامتة. كرجل معرفة، عرف الناس أكثر من سواه، وعرف الرفاق أكثر من سواه، وعرف الخصوم أكثر من سواه، وعرف القضايا أعمق من سواه. ولا يعني ذلك أنه تنازل عن شيء في قضايا روسيا، يوم تسلّم أمور الداخل أو أمور الخارج. وعرف النقضاء كيف يفيدون من معارفه: المتهوِّر بوريس يلتسين والمتنوِّر ميخائيل غورباتشوف. وبعدما خرج من الحياة العامة إلى عزلة الشيخوخة ظل فلاديمير بوتين يزوره كواحد من آباء الأمة الروسية وفلاسفة استقرارها. صدام حسين رفض الإصغاء إلى الصديق السوفياتي ثم الروسي. كما رفض الإصغاء إلى سواه. وكان أن فقد العراق المزيد من توازنه. دائمًا كانت هناك نزعة إنسانية في فكر بريماكوف. وقد طاب لبعض الروس أن يسموه، في حياته وفي مماته، «كيسنجر روسيا». ولا أدري مدى الدقة في ذلك. فقد كان، ربما، أقل أكاديمية من وزير خارجية أميركا، لكنه كان أكثر إنسانية وأكثر مسؤولية في مسائل السلم والحرب. وفي مؤلفاته، مثلما في مؤلفات كيسنجر، حجب رجل الدولة الكبير الكثير من المعلومات إما لرقابة ذاتية أو رسمية، لكنه ترك لقارئه دائمًا ما يكفي لقراءة مواقفه ومراحله ورؤية الكرملين إليها. لا شك أن بريماكوف المستشار، كان أكثر علمًا من الذين استشاروه من زعماء الكرملين، أو رفعت إليهم أبحاثه في البدايات، قبل أن يصبح شريكًا في القرار، وفي الخارجية، وفي المخابرات، وفي رئاسة الحكومة. ورغم الفساد المريع الذي استشرى خلال حكم يلتسين، ظلت سمعة بريماكوف حصينة كرجل دولة. قلائل صمدوا في العملية الانتقالية من الكرملين الأحمر إلى الكرملين الزهري. أما هو فنقل معه من المرحلة الحمراء، ميزات يحتاجها الجميع: توازن شديد وعقل منفتح ورؤية مبسطة للبشر: إنهم تلك المخلوقات التي تتحول في يوم واحد من لون إلى لون، من دون احمرار الخجل.