2015-10-10 

المتعتعون

سمير عطا الله

كان الصحافيون في الستينات يقرأون مؤلفات جون غانثر كمن يقرأ القاموس ويحتفظ به. وقد صدرت كتبه تحت عنوان واحد: «داخل أوروبا اليوم» أو «داخل أميركا اللاتينية اليوم».. إلخ. جميعها دراسة مبسّطة موضوعية واضحة، عن أحوال القارة وأشخاصها وثقافاتها. من «داخل أوروبا اليوم»، تعلمت أن أحب الوحدة العربية وأتمناها، وليس من شعار «دم - حديد - نار»، أو خُطب تدمير الآخرين وتهديد الجميع. بدل «دم – حديد – نار» بدأت الوحدة الأوروبية بفولاذ حديد مناجم. بدأ الأوروبيون وحدتهم بعد الحرب بـ«ألِف باء» المصالح. خطوة خطوة، ومن تحت وليس من فوق. وسلموا أمورها للخبراء والعقلاء والخيِّرين، وليس للمهرّجين والجلادين والمنافقين. بعد قرون من الحروب والعدوان، أيقنت أوروبا أن الحل الأمثل هو الوحدة. وحدة القمح والرغيف والمصانع والمصح والعلم. وفي الوحدة لن يعود من الممكن لرقيب سابق أن يجر بلدًا مثل ألمانيا إلى القتل والانتحار، أو صحافيًا فاشلاً مثل موسوليني، أن يجر إيطاليا إلى الفاشية الفارغة إلا من اللفظيات والخراب. كنا في عمر الحالمين، وقد حلمنا بوحدة تدريجية وثابتة على الطريقة الأوروبية. وحدة تُخرج الفرنك الفرنسي من ذل التضخم، وإيطاليا من فقرها، وإسبانيا من فرانكو، والبرتغال من عصر الفلاحة في ظل الديكتاتور سالازار والصدأ الفكري. لكن الذي حدث كان معاديًا لأبسط الأحلام. اختطف شعار الوحدة فرانكو وسالازار. اعتبر العلم عدوًا، والديمقراطية صهيونية. وبكل سخرية ولؤم، قامت الحروب باسم الوحدة، ونشرت السجون باسم الحرية. ولم تعد هناك حدود للموت والقتل والخراب. وتحقق شيء واحد: «دم – حديد – نار». قيل إن الغرب متآمر على وحدتنا. وقيل الصهيونية. وقيل أميركا. وقيل الاستعمار والإمبريالية. لكن أحدًا لم يشرح لنا من هي الأيادي العاملة لدى الإمبريالية والصهيونية والاستعمار. ومن هو العدو الذي أفقر شعوبنا، وبدد طاقاتنا، وشرد شبابنا، وجمّد التطور والتقدم والنمو. كانت الوحدة حلمًا بسيطًا، غاية في البساطة. بدل أن تغلق سوريا الحدود في وجه لبنان كلما خطر له أن يمارس توازنًا سياسيًا، تشترك معه في مداخيل التصدير. وبدل أن تتعامل سوريا والعراق بالحصار والمقاطعة، يتعاملان بالمبادلة والمقايضة. وبدل أن تربط حياة الشعوب بالسياسات العابرة والتافهة، تربط بحجم التبادل والمنافع ومشاريع المستقبل. هذه هي النتيجة. حتى الوحدة الداخلية هي اليوم مدعاة حرب. حتى في الداخل لا حدود مشتركة ولا مصالح مشتركة ولا مستقبل مشترك. المبادلة الوحيدة هي في فنون الإرهاب وتعاليمه. في القتل والانتحار. الأنظمة التي تهاوت مدت شيئًا واحدًا عبر الحدود: الخَراب. الرفيق المناضل أبو نضال نقَّل بندقيته في ثلاث دول وحدوية متصارعة: ليبيا والعراق وسوريا. دائمًا تحت شعار لا يتغير: «الوحدة! دم حديد نار». في غضون ذلك، انتقلت أوروبا من معاهدة الفولاذ في روما إلى 25 دولة. دعكم من اليونان. المتعتعون لا يُحسبون. جريدة الشرق الأوسط

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه