أرسل الملك فيصل أولاده إلى أهم الجامعات الأميركية يطلبون العلم. وذهب الأمير سعود إلى برنستون، الأكثر احتراما في أميركا، حيث درس الاقتصاد في جامعة تضم أبرز مفكري الاقتصاد في القرن الماضي. غير أن أهم معهد خرج منه سعود وإخوته، كان مدرسة فيصل بن عبد العزيز، مؤسس الدبلوماسية السعودية، وأول مندوب لها في قمم العالم. ورث سعود الفيصل عام 1975 أسلوب الأب وتعاليمه ونموذجه، في السياسة وفي الإدارة. وأدار وزارة الخارجية بالهدوء والتحفظ. وأبقى الدبلوماسية في الخارج موضع احترام، وأيضا موضع تحفظ. وطوال أربعين عامًا تكلم سياسيون كثيرون في شؤون كثيرة، وبقي الأمير سعود مقلاً كأن ليس لديه ما يقول. منذ 60 عامًا تتلقى الملكة إليزابيث تقارير يومية عن أحوال العالم. ترفع إليها هذه التقارير أهم مؤسسات انتليجنس في الدنيا. تقرأها وتطويها. تعرف عن حميميات الزعماء وجنون البعض وجرائم البعض الآخر، ما لا يعرفه أحد. تقرأ التقارير وتطويها. طوال 40 عامًا كان سعود الفيصل يعرف الكثير. يعرف ويطوي الأوراق، صامتًا وبعيدًا، محاطًا بعدد قليل من المستشارين، وفي حياته الخاصة محاطًا بعدد قليل من الأصدقاء. العمل كان كل شيء. صرف العقود الأربعة يجمع كل يوم خلاصة الوضع العربي والعالمي ويرفعها إلى ملكه. ولم يكن يصغى إليه فقط في الشؤون الخارجية، بل أيضا في قضايا الطاقة والأمن القومي. كان، باختصار، رجل الثقة في تقييمه وتقديره للقضايا. وكان من موقعه يحمي السياسة الخارجية من ردود الفعل المتسرعة أو غير الملائمة، مدركًا أنها لا تتطلب فقط سعة المعرفة وسرعة الاطلاع، بل أيضا سعة الصدر وسعة الصبر. خلف الهدوء الشديد، كان يحتمي بشجاعة كبرى. شجاعة فكرية أخلاقية وطنية ما لبثت أن انعكست على صموده في مواجهة الآلام الجسمانية. ورغم تبريحاتها، لم تمنعه من السفر والتنقل واللقاءات والاتصالات وملاحقة تفاصيل التعقيدات السياسية، التي اشتدت في الآونة الأخيرة فيما اشتد عليه المرض والألم. ودفعت مظاهر التعب بعض اللؤماء مرة إلى بث إشاعة تقول إنه فارق الحياة. فلجأ ساخرًا إلى ما قاله الكاتب الأميركي مارك توين، وأدلى بتصريح قال فيه: «الإشاعة عن موتي أمر مبالغ فيه». مثل الملك فيصل، كان الأمير سعود، مليئًا بتواضع عفوي. وطالما نقل ضيوفه إلى المنزل وهو يقود سيارته بنفسه، لا حرس يتقدمونه أو يتأخرون. وما إن تجلس إليه حتى ينبسط أمامك أفق وسيع من المعارف والتجارب. دائمًا بغير ادعاء. دائمًا في حرص على جوهر التواضع وليس شكله فقط. أهمية سعود الفيصل لم تكن في تراكم سنوات المنصب، بل في تراكم الاستخلاصات والعِبر والدروس العقلية لأحداث العالم ومتغيرات البشر. من جريدة الشرق الأوسط