سعود الفيصل هندسَ الاحتمال، كيلا يكون مأزقاً تاريخياً، وكرّس ما يمكن كي يفضّ وجه الأزمات على مصراعي الحلحلة، واشتغل على فرصِ التسويات بمراس الجدير الثابت، وهكذا في كل القضايا من جدية الوطنيين، وحتى آمال الراديكاليين. يقفز بالقطيعة إلى مراتب التعايش، والعالق إلى منزلة الناجز. كان يسافر كأنه لا يعود، ولهذا الوطن العربي - من الدمِ إلى الدم - عاش مجدولَ الهاجسِ من دون توقف، وأنّى كتبوا عن توافقٍ عربي كان سعود الفيصل فرداً في الوفاق، على جانب للصواب ومع جانب للإحقاق. كانت الطائرة تحط في مطار كنيدي لأن العراق يجوع، فيما رحلتها القادمة باتجاه الخرطوم لحمل فكرة عن صون دارفور. كانت تصل موسكو ليقرأ مع غورباتشوف أوجه السلام، ولن يلتفت إلى ثناء آخر العُتاة الروس حين يبكي «السوفيات المفتت» ويتمنى لو أن في فريق الكرملين رسول السعودية، بينما - بطل الجودو - بوتين سيُمدد الوعود في الصور مع الرجل الطويل، وسيقول له في السر كلمات تخص النوايا الطيبة في الهلال الخصيب، ثم سيكون الإقلاع التالي إلى حافظ الأسد قبل «أنصاف الرجال» وقبل اغتيال بيروت، وقبل التمهيد لقادسية كبرى، وقبل تيتم نينوى وخوف مئذنة المسجد الأموي من تزوير الشام. ومن فاس المغرب، يوماً يسافر لسنوات بـ«سلام الملك فهد» للشرق العربي - العربي، وحين تكون الطائرة ذات مرة في لندن المشغولة بـ«جزر الفوكلاند» تكون الحقيبة خفيفة الظل أمام المرأة الحديدية - مارغريت تاتشر - وستشرح يوماً متانة الودّ مع «منعم الأرجنتين»، ولن تتوقف عن زيارة آل بوتو وعسكر السلاح الصديق في إسلام آباد، ولا عن بكين ماو وأفكار التحديث والهند القادمة، ولن تكون مساهمات البلاد أقل من اليابان في إعمار أفغانستان. وعندما الحقيبةُ تقود التوازنات بين الأضداد، سيتحدث في كل شيء، من مسلمي البلقان وحتى إنسان الإنكا، من أسى سراييفو وحتى مانديلا أفريقيا، فلم تكن الحدود سوى تفاصيل في المعركة. سيبحث عن «الميراج» التي لا يتحفظ على امتلاكها كثيراً فرنسوا ميتران، ولن يخسر الصداقة بسببها - آخر الدوقوليين - شيراك، ويبقى الرجل الوحيد المؤهل لدخول قصر الإليزيه - من دون سفير أو مترجم - هو الرجل ذو السمت الأنيق، أو «اللوبي السعودي» كما وصفه وزير خارجية أميركا السابق كولن باول. وصفقة «دبابات ليوبارد» المعلقة لا تزعزع الثقة بألمانيتي هولمت شميت 1974 أو ميركل 2005 التي تقود اقتصاد أوروبا وتلتقي أحد سادة الوفد السعودي في ملتقى الثماني الكبرى، وهناك يُعبّر الجميع عن الصدقية الأكثر تكراراً، والأقل تفعيلاً، ويتفهم الأمير الأذكى في تقديره للزمن الأمير الأعرف بالوقت الصالح للعمل. وسيسافر في سنوات الملك عبدالله نحو ترميم البيت العربي - العربي حدّ المواجهة والرفض، من بنادق الصومال، إلى خُطّاب القدس، ومن تونس إلى الرمال الغربية على المحيط، وبينما «جزر القمر» تسأل يداً عربية، لا يتوقف الأمير عن جدولة مرارات الوطن العربي وفق الأولويات، أقدمها حزناً فلسطين، ثم هتك الفرات حتى جبل قاسيون في دمشق، وأجدّها شرخاً الجنوب - اليمن يخسر اليمن - حين زمن التدخلات يُفقد حُسنَ الجوار معناه، ويصبح الشرق جديداً على مزاج الخطط المرتجلة؛ وعلى حجم الوجع العربي سيكون المسعى. الوقت يلهث ورجل التحليق لا يتوقف. كان كل هذا النضال الناعم والقاهرة (1978 - 2015) هي منتهى وبداية العرب، وستداوم الطائرة على غيم سماوات الدول. فوق بلد يعدّ الرجلُ الرقعةَ وعلى أرض بلد آخر يحرك الطموحات. آخر الرجال - منذ أيام - لم يعد يحمل أجندةً حذرة، ولا يقف على ملفاتِ الحافّة، لن يكون بعد اليوم غارقاً في الممراتِ الطويلة ولا محافل الكبار ولا أستاذ التجنب عندما يلزم، ولا عبقري المواجهة حين تحتم المرحلة. سادةُ النفوذ لن يأخذوا معه الصور الأثيرة، ولن يُصافح في الخلف أحداً، إنه اتخذ قرارَه منذ عقود ومنذ ألف منعرج سياسي أن يصمت قبل أيام، وأن يفسح للخوف طريقاً على الأوراق وعتبة المكتب ورزنامة التحفظات وقائمة التوقعات. سعود الفيصل الرجل الذي لم يقل كلمة، لأنه سيكون أظهر مما تقوله وثيقة، وأوضح مما سيفعله دليل، وإن كانت «الدبلوماسية» تطويع المسارات إلى شبهة التنازل، كان الرجل يخلق الخيارات فتولد في الآخر المصالحات العادلة.. إنه الرجل الذي لم يقل أيّ كلمة، لأنه يرفض قميص التبدّل، لذا لم يسع يوماً لكتابة مذكرات الوزير ولا تجربة الموظف، لأن يقينَه في صدقه أعمق من يقيننا برجل دولة، وإن تحدث فهو سيقول كل شيء، وأهمية استمرار المؤسسات تبرر بقاءها الحازم، ومن ثم ثبات الدولة، ولأن الرجال لا يبقون، فهم يموتون، كان على سعود الفيصل التحلل من الوظيفة - في تقديره - لتبقى ذاكرة المؤسسة والتزامها على الاستقلال، وهو يقبض على الامتناع؛ كيلا يُجانب ضروريات الدولة، لذا اختار أن يذهب وعلينا أن نتتبع جذور المستحيل على دربِه وفي اتجاه الأسرار الكبرى، من حرب لبنان وحتى مذابح الربيع العربي.. ويا ويلتاه من فلسطين إلى فلسطين! لم يكن وقت السفر عبر مياه العالم والأرض والبشر انتهى؛ بل الصمتُ يقول كلمتَه الفصل؛ وكأنه لم يصمت زمن أميمة اليسار وزمن الحروب الهادئة وزمن انفراط الاتحادات وقيام المجموعات، وكأنه لم يصمت في أروقة الساسة حيناً لاحترام خرائطهم وحيناً لمراوغة مالكي القنابل، فهو رجل الحدّين، وهو النصل الذي أمضى من الحقيقة. إنه لا يخشى على هذا الهدوء اللانهائي، فهو جنديه المخلص حتى آخر لحظة، لذا يتمسك بحق عدم الإدلاء - ولو بابتسامة إذا تطلب الأمر - طوال نصف عمر البلاد؛ لأجل البلاد وصدقية الدفاع والإفصاح عن وجهة النظر. يصمت الآن وكأنه لم يستخدم حق الكتمان حتى نفاد الركض الذي أخذ عرق جبينه كلّه ونبض القلب حدّ السكوت. لازم هذا التنحي عن الحديث وحمل حقيبته بعيداً عن خوض السيرة والكشف وتفشي الوثائق وغاية السِريّة ومذكرات التفاهم وعقد الاتفاقات، فهو سيد ما يجب وما لا يُقال الآن أو غداً. لازمَ عدم الاعتراض على حقه الشخصي منذ نعومة الواقع. أول سفير للمملكة في واشنطن وهيئة الأمم المتحدة معاً - في ستينات القرن الماضي - السفير جميل البارودي يمنعه من شراء سيارته الخاصة، ويقول له: «يا سعود هات ورقة من الملك فيصل وأعطيك سيارة»، ولازم عدم الاعتراض على المرض الذي يحصد كل الخطوات حتى زهوه بالعكاز متسائلاً جموع الصحافيين: «هل من مُنازل للسبق؟». سعود الفيصل الذي انتبهنا للتو أنه يتركنا كما فعل الكبار، وأن صمته الذريع له يوم أطول، لن يخطف من زحام الجدول ساعاتٍ لأجل الكتب المؤجلة هناك جوار «بلاس فيكتور هيغو» في الدائرة 16 من باريس، في المنزل الذي شهدَ آخر مصافحة قبل «كامب ديفيد - مايو 2015»، حينما كان هو القيّم على صواب التفاوض، وبعد اليوم لن يعرفَ أحدٌ مستلزمات حديقة البيت الأبيض الصارمة، ولن يديرَ بوصلةَ الخليج ولا أدوات الاستنكار. إنه يوقف المفاوضة الأخيرة مع الوطن ليتسيد له الخط الأول، وأن يواصل معترك الغرف المغلقة. ويعز على الملك سلمان أن يُغادر البلاط، لكنه سيرفض كل تفاهم خارج إطار الترجل، سيلتزم بهذا السفر الأبدي ومعه «وحده فقط»، كما لو أنه ينجز يوم عمل بقلمه الرصاص الذي اعتاده من دون الحبر طوال سنوات الأمانة والإخلاص والشقاء، فهو يعلم أن كل شيء قابل للمحو عدا ذاكرته التي صحبته، لذا كان يكتب بقلم الرصاص؛ ليترك للجميع إثره حقاً في التصرف بالمعالجة والتغيير والتبديل. سعود الفيصل.. لم يكن معنياً إلى يومه الأخير أن يعرض المنجز الشخصي، فعلى امتداد الذين بكوا نعرف هولَ القامة من الصنيع، وعلى قدر ما شجبوا خلوَ مهمةِ التمثيل الأعلى من اسمه، كادوا من فرط الحزن يشجبون هذا الذهاب النادر. لم يكن معنياً بمراسم هذا الألم الماثل فينا نيابةً عنه، ولم يسعه أن يكتب إشارةً صغيرة بقلمه الرصاص حتى نفهم أن ترجله - قبل شهور - عن وزارته الأنصع هو ترجل عن هذه الحياة الأقل من بعده. وسنعلم أخيراً أن هذه القامة لن تتأنق من جديد للمداولات الضاربة في الوعود، الوعود التي تلقى مصيرها معه، وهو لن يبلغ من جديد سفراً يفوق هذا العلو الشاهق.. إنه ليس مثوى الشخص المنضبط وحسب؛ بل نذير آخر الرجال، حين أخذ العنقَ الأعلى من دون طوق العلاج، وغادر على اتساعِ الفقد، جزّ وريداً لوسامٍ نحلم، على أرفع ما يمكن من التفاصيلِ، ودون أدقّ الشهادات إطراءً، يُزيحُ قلادةَ الحياةِ من صدره ويُباغتُ 40 عاماً من الأبواب المتاحة على الأفقِ، فيُغلقها وتضيقُ الحدود.. إذاً وداعاً بكل ما أوتينا من شجاعة. جريدة الحياة اللندنية