تغرق شوارع بيروت وجبل لبنان بالنفايات في ظل نزاع سياسي يعوّق تدبّر اللبنانيين شؤونهم ويكاد يوقف دورة الحياة العادية في هذا البلد. معروف أن الحفاظ على نظافة المدن يرقى إلى البداهات في واجبات السلطات المحلية والحكومات. وليس من خلاف حول الأهمية الكبرى لجمع النفايات والتخلص منها في عالم يعاني من أزمات بيئية تهدّد بعض جوانبها بانقراض الحياة فيه. في لبنان، ارتبطت أعمال التنظيف بما اصطلح على تسميته إعادة الإعمار التي شهدها بعد وضع الحرب الأهلية أوزارها في أوائل تسعينات القرن الماضي. أزمة التخلص من النفايات اليوم تندرج، على ما بات جلياً، في أزمة شاملة يمرّ بها لبنان بدأت تخرج إلى العلن مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 2005. نظرة أوسع إلى منجزات فترة إعادة الإعمار التي استمرت عقداً بين منتصف التسعينات وأواسط العقد الماضي، تعطي فكرة عن أحوال الناس والمجتمعات والسياسات في لبنان. فإضافة إلى خصخصة عملية جمع النفايات التي قُدّمت وقت حصولها كخطوة متقدّمة على طريق تخفيف أعباء الدولة و»ترشيقها»، ثمة صروح نشأت في تلك الفترة مثل مجمّع الجامعة اللبنانية في بلدة الحدث ومستشفى بيروت الحكومي والمطار الدولي والمدينة الرياضية وعشرات الجسور والطرق السريعة، ناهيك عن مدارس عالية القدرة الاستيعابية في المناطق وقبل هذا وبعده وسط بيروت الذي دمرته الحرب واعتبر درّة التاج في إعادة الإعمار. يستطيع كل ذي بصيرة الحكم على مآلات هذه المؤسسات والمنشآت التي كلّف بناؤها المواطنين اللبنانيين بلايين الدولارات والغرق في ديون لا أفق للخلاص قريباً منها، في أقل من دقيقة واحدة: كارثة كاملة. المدينة الرياضية أقرب ما تكون إلى الخرابة، المستشفى الحكومي والمجمع الجامعي وقعا في قبضة الفساد المحلي، الكثير من المدارس في المناطق تشكو من قلة التلاميذ وسط مبان اكبر من الحاجة. اكثر من نصف وسط بيروت يشبه مدن الأشباح لأسباب تتراوح بين اخراج هذه المنطقة من النسيج المديني المحيط ووقف السياحة العربية وفرض اجراءات امنية غير مفهومة ولا مبررة. آية ذلك أن إعادة اعمار لبنان تأسست على مجموعة من الأوهام والأحلام انقلب أكثرها كوابيس. لقد اتضحت ضحالة التسوية التي انهت الحرب الأهلية وعدم قدرتها على ادارة لبنان سياسياً واقتصادياً بعد خروجه من التقاطع العربي- السوري- الأميركي الذي اسفر عن اتفاق الطائف. عادت النزاعات الطائفية والمذهبية عودة حادة لم يشهد البلد مثيلاً لها منذ قيامه. وبدا أن التراضي وتوزيع الغنائم على المنتصرين المحليين والإقليميين في الحرب واللذين حَكما حقبة التسعينات مجرد جرعة مُسكّنة لآلام التعايش المضني والممضّ بين الطوائف التي سرعان ما انتبهت، بعد رفع مخالب وصاية النظام السوري عنها، الى مظلومياتها التي لا تنتهي. الأدهى أن حاصل جمع المظلوميات هذه لا يكفي لعلاجه توزيع الثروات والسلطات والمناصب المتاحة. اللبنانيون مظلومون الى درجة لا تكفي معها ثروات الأرض لإرضائهم. وتحول جروح المظلومية ورضوضها المبرحة دون قدرتهم على الاتفاق على حد ادنى من التسويات اللازمة لتسيير امورهم. نتائج اعادة الإعمار ومنشآته، تتفكك وتنهار الواحدة تلو الأخرى امام اعين لا مبالية. اتفاق الطائف موضع تشكيك يومي من دون بدائل جدية سوى حديث نزق عن مؤتمر تأسيسي. الاقتصاد من سيء الى أسوأ. الهجرة حلم من الأحلام القليلة التي توحّد الأعداد الغفيرة. ولا يبقى هنا غير ديون هائلة يرزح تحتها اناس أوكلوا مصائرهم الى من لا يملك مصيره في الأصل.