سواء كنت من مناصري حماس أو منتقديها، فإنك لا تستطيع إلا أن تبدي الإعجاب بمناورة قيادتها السياسية في الأوقات الصعبة، كما تظهر في قراراتها على الأرض. ويبدو أن قيادة حماس لها من القدرة، التي ورثتها من الصراع الطويل مع إسرائيل، ما يمكنها من النظر الأكثر عمقًا للتطورات المحيطة بتسارع الأحداث السياسية في المنطقة، فهي في الوقت المناسب تتخذ موقفًا لم يكن متوقعًا منذ أشهر قليلة. فبعد أقل من ثلاثة أيام من توقيع الاتفاق النووي الإيراني، الغربي (الأميركي) على وجه الخصوص، كانت في ضيافة الملك سلمان بن عبد العزيز في مكة المكرمة، من أجل الوقوف مع قضيتها، التي ناورت إيران ردحًا غير قليل من الزمن على جاذبيتها للجمهور العربي ووعدها المعلن بالوقوف مع القضية ودعمها، توظيفًا لأهداف سياسية. لا يصح إلا الصحيح، ولكن قبل الدخول في التفاصيل فإن قيادة حماس كانت تحمل الحاسة السادسة نفسها عندما هجرت نظام دمشق، الذي كان يرغب في توريطها معه في قتل وتشريد السوريين. لماذا ذهبت حماس إلى مكة ومدت اليد إلى المملكة العربية السعودية؟ في رأيي لسببين؛ الأول أنها تعرف معرفة اليقين أن الحضن السعودي، من كل بلاد الأرض، هو الذي حَضن ويحضُن القضية الفلسطينية دون شروط ولا مناورات، وهو الملجأ والملاذ في أول الأمر وآخره، الذي لن يتخلى عن النضال الدؤوب لهذه القضية، ببساطة لأنها قضيته، منذ تأييد الراحل الملك عبد العزيز طيب الله ثراه. وثانيا، وهنا مصلحة حمساوية مباشرة، يعرف قادة حماس أن الصفقة بين إيران وأميركا في جزء منها هي صفقة لتخلي الأولى عن القضية على المدى المتوسط، والتي دأبت على تحميلها لفظًا كل المساوئ التي ترتكبها طهران في حق العرب وبيعها على أنها «دفاع عن فلسطين». لم يكن ذلك الموقف بعيدًا عن التحليل المنطقي المنتظر في الأيام المقبلة، حيث ظهرت شعارات في طهران، ولو كانت الآن تظهر على استحياء، فإنها سوف تسود في الآتي من الأيام. استبدلت «العرب» بـ«أميركا».. تقول «الموت للعرب»، نعم من جديد «الموت للعرب». وهكذا طفح التوجه الفارسي التاريخي على التصنع الذي لبست طهران قناعه في العقود الثلاثة الأخيرة. وزاد ذلك التوجه ثباتًا أن «تمثالاً ضخمًا لكسرى»، الذي بدأ بإزاحته «دخول الإسلام لفارس!» في القديم من التاريخ، قد تم تنصيبه على مدخل الخليج الجنوبي «هدية عيد الفطر»!.. وهو أمر رمزي يشي بعداء للعرب ورجوح التعصب الفارسي، الذي كان معروفًا لدى الخاصة، ومخفيًا خلف شعارات كثيفة يتم تسويقها بين العوام. خطوة حماس في العودة إلى الحضن الدافئ والحاني تعني فهمها لانتهاء عصر المقاومة اللفظية الإيرانية تجاه إسرائيل، وهي بشرى أخرى لإسرائيل. حتى لو أغلظت القول في المرحلة الحالية، من أجل الابتزاز السياسي، فإن أفضل مكان مسالم سوف يصبح ولفترة طويلة هو «الجنوب اللبناني»، هناك سوف تصمت المدافع إلى وقت يطول. فشعار «الحياة لأميركا»، الذي سوف يرفع في طهران، سوف يعقبه شعار واقعي هو «الأمن لإسرائيل» في الجنوب اللبناني، أي أن تلك القوى التي تغذت على «المقاومة» واستهلكت الحرث والنسل في لبنان على حساب الطوائف كافة، بأنه لا صوت يعلو على صوت المقاومة، حتى لو كانت في شوارع بيروت العاصمة العربية، سوف تجد نفسها مسايرة لذيول الاتفاق الإيراني - الأميركي، فلا يُعقل أن تسالم طهران وتخاصم الضاحية الجنوبية، التي كانت دائما تتبع تعليمات طهران بحذافيرها. نعم قد يفاجأ البعض بأن إسرائيل هي المستفيدة الكبرى من الاتفاق في فيينا، فهي رغم ضجيجها المفتعل قد حصلت مؤقتًا على توقف المسار النووي العسكري الإيراني، وتمهل في التوجه إلى ملكية أسلحة طويلة المدى، وهي أيضًا حصلت على «صمت القبور» على حدودها الشمالية المشتركة مع لبنان. إلا أن ضبابًا كثيرًا من الدعاية سوف يصاحب ذلك الصمت لتبريره، كالقول بالانشغال بالمعركة في سوريا، أو تجنب إشعال فتنة داخلية، أو أي ذريعة أخرى، إلا أن الحقيقة العارية التي يجب أن تفهم الآن هي أنه لا حرب باتجاه إسرائيل ولا حتى طلقات «كاتيوشا» متفرقة، كما كان يحدث بين وقت وآخر في السابق سدا للذريعة. تحقق إيران هدفين أساسيين في ما بعد استقرار الاتفاق مع الغرب؛ أولهما هو استمرار الشهية التوسعية الفارسية في الجوار العربي، وهي شهية سياسية (لا طائفية كما تسوق للعامة)، لكنها تغطى بضباب «إيماني» هو إشاعة أن «المهدي المنتظر» لن يظهر على الأرض إلا بعد أن تسود إيران الشيعية على كل بلاد المسلمين، وهنا سوف يتحقق الظلم كاملاً والجور شاملاً تمهيدًا لظهور المهدي.. والفكرة الأخيرة تسوق الآن بكل ضراوة لدى العامة والبسطاء من الناس، في أكبر تزييف للأهداف السياسية تحت غطاء مذهبي! فمن كان يرى أن طهران في حكم الملالي هي حليف دائم للقضية الفلسطينية عليه أن يزيل تلك الغشاوة عن عينيه، ولعل أول من أزال تلك الغشاوة هي قيادة حماس، التي عرفت لطول خبرة أن إيران المليئة بشحنة مضادة للعرب تاريخيا لم تكن بجانبها بسبب عطفها على العرب، بل بسبب تحقيق مصالح لها، منها الضغط على الغرب من خلال تهديد إسرائيل، ومنها كسب رأي عام عربي مُضلل. لم يُعبث بقضية سياسية كما عبث في التاريخ الحديث بالقضية الفلسطينية، وحري بقيادة حماس أن تقيم الوصل كاملا ومن غير تردد أولا بأهلها في الضفة والقطاع، وثانيا بأهلها العرب، وعلى رأسهم المملكة العربية السعودية، التي لم تحنث في تاريخها بوعد للقضية، ولا ناورت حولها لتحقيق مصالح أخرى خفية، كما فعلت الآن وبوضوح طهران. وقد جاء الرد سريعا لخطوة قيادة حماس بتفجير خمس سيارات مفخخة في غزة، لإرسال إشارة بأن بعض الجيوب يمكن أن تُنقص على مسار قيادة حماس وفي عقر دارها! يأخذنا هذا التحليل إلى بعض الإخوة من العرب الشيعة، الذين التحموا بالمشروع الإيراني، فقد آن الوقت أن ينظروا عن قرب أن إيران الفارسية ليست بوارد إنصافهم، حتى لو وقع عليهم حيف وطني، لأن إخوتهم في الشريط الطويل (الأحواز) غير مُنصفين، رغم شيعيتهم، وأن خروجهم من المكون الوطني، كونهم عربًا، لا يعني قبولهم في الجانب الإيراني المشبع بالكراهية القومية، بل إن ذلك الخروج مضر بمصالحهم على المدى الطويل، وخير الأمور هو الالتحام بمواطنيهم والقبول بما يجب القبول به، أي حق المواطنة والعمل مع الجميع على تطوير حكم عادل ورشيد لكل أطياف المجتمع، دون تفرقة أو تهميش على قاعدة المواطنة لا الطائفة. لقد تمت أمامنا مناصرة طهران لأرمينيا في ناجورني كارباخ على حساب أذربيجان المسلمة، ذات الثقل الشيعي!.. إنها السياسة لا الطائفة! ربما نشهد في سياق الأحداث الأخيرة تحقق إحدى الحكم العربية القديمة القائلة «رب ضارة نافعة» عند الانتهاء من تثبيت ذلك الاتفاق النووي وتوثيقه في المجال العالمي، بأن يعود الأهل إلى ذويهم.. بعض الشيعة العرب إلى المكون العربي الذي يجمعهم، وقد جمعهم قرونًا سابقة، وبعض المكون الفلسطيني إلى أهله، لأن العُصي إذا اجتمعت صعب كسرها. آخر الكلام: أزمة الحكم في إيران هيكلية وستظل قائمة، فالقلق المرضي من فقدان السلطة المبنية على كهنوتية غير تاريخية يحتاج دائمًا إلى تحشيد واسع خلفه، فيشغل الجميع بـ«أعداء»، وإن لم يكن الغرب، فهم عرب الجوار. ولن يستقر الأمر إلا بحلول الثقة بالنفس، وهي ثقة ليست قريبة لأنها تتطلب تنازلات لا يبدو أنها مُستطاعة في القريب. من جريدة الشرق الأوسط