كان ملفتاً الخطاب التصعيدي للأمين العام لـ«حزب الله» السيّد حسن نصرالله الذي أكّد فيه أن لا تغيير في الموقف الإيراني من الحزب. قال نصرالله، في أول ظهور له بعد توقيع الاتفاق بين إيران و«الشيطان الأكبر» في شأن ملفّها النووي «إنّ علاقات إيران مع حلفائها تقوم على أرضية عقائدية تسبق المصالح السياسية (...) الولايات المتحدة (هي) الشيطان الأكبر قبل الاتفاق النووي وبعده». هذا التصعيد كان تصعيداً يخصّ الداخل اللبناني وفحواه أنّ «حزب الله»، بصفة كونه ميليشيا مذهبية مسلّحة، ليس حكماً. يقول صراحة إننا «لسنا وسطاء». يكشف نصرالله مرّة أخرى أنّ «حزب الله» ليس سوى قوّة احتلال في لبنان، قوّة تسعى، ظاهراً، إلى لعب دور المتفرّج بهدف إظهار النزاع في البلد نزاعاً سنّياً ـ مسيحياً وليس نزاعاً بين الحزب ـ الميليشيا من جهة واللبنانيين المتمسكين بثقافة الحياة من جهة أخرى. في اساس النزاع، بل في أساس الأزمة اللبنانية، السلاح غير الشرعي الذي تستقوي به إيران على اللبنانيين وعلى مؤسسات دولتهم. كان لا بدّ من التصعيد لتغطية ما قامت به إيران والذي يختزل بصفقة، بكل ما في كلمة صفقة من معنى، مع الإدارة الأميركية. تخلت إيران بموجب الصفقة، التي لم تكن إسرائيل بعيدة عنها على الرغم من تظاهرها بمعاداتها، عن برنامجها النووي بجانبه العسكري. في المقابل، حصلت إيران على رفع تدريجي للعقوبات الدولية. يمكن لرفع العقوبات أن يعود عليها، في حال التزمت الاتفاق، بنحو مئة وخمسين مليار دولار هي في أشدّ الحاجة إليها للخروج موقتاً من أزمتها الاقتصادية... مثل هذا الكلام الصادر عن الأمين العام لـ«حزب الله»، الذي ليس سوى لواء في «الحرس الثوري» الإيراني، موجّه قبل كلّ شيء إلى مناصري الحزب في لبنان. هؤلاء يشاهدون بأمّ العين سقوط عدد كبير من القتلى من أبنائهم في الحرب السورية التي يخوضونها بطلب مباشر من طهران، فيما يحتفل المواطنون الإيرانيون بالاتفاق الذي تمّ التوصل إليه مع المجتمع الدولي، مع الأميركيين تحديداً. يصرّ نصرالله على أنّ أميركا ما تزال «الشيطان الأكبر»، فيما الشعب الإيراني في حال عشق وغرام مع أميركا. إنّه منطق اللامنطق يلجأ إليه حسن نصرالله لتبرير اتفاق أميركي ـ إيراني شكّل في نهاية المطاف محاولة جدّية قام بها النظام في طهران من أجل إنقاذ نفسه من جهة والحصول على شرعية من «الشيطان الأكبر» من جهة أخرى. في النهاية، أين مشكلة الولايات المتحدة في سقوط مزيد من الشبّان اللبنانيين في سورية خدمة لنظام أقلّوي يسعى إلى إلغاء سورية والشعب السوري؟ هل يهمّ مستقبل سورية الإدارة الأميركية...أم كلّ همها محصور في طمأنة إسرائيل إلى طبيعة البرنامج النووي الإيراني وإلى أنّه لا يمكن أن يشكّل أي تهديد لها في يوم من الأيّام؟ منطق اللامنطق ينطبق في الوقت ذاته على تصرّفات إيران نفسها التي تسعى إلى طمأنة الذين راهنوا عليها في مملكة البحرين، من منطلق مذهبي بحت. حسناً فعلت مملكة البحرين عندما استدعت سفيرها في طهران بعد اكتشاف مجموعة تسعى إلى تهريب كمية كبيرة من المتفجرات والأسلحة إلى المملكة. حسناً فعلت عندما ندّدت المنامة بما يصدر من كلام عدائي للبحرين عن كبار المسؤولين في إيران. صحيح أنّ إيران تستفيد من التجاذبات الداخلية في البحرين، وهي تجاذبات حالت دون تمكين المملكة في يوم من الأيّام من عرض قضيتها بشكل منصف يليق بالإصلاحات التي تحقّقت، لكن الصحيح أيضاً أنّ الإدارة الأميركية لم تدرك يوماً هي حقيقة الوضع في البحرين. لم يكن من همّ أميركي سوى التعاطي مع البحرين بشكل سطحي، بما يعطي فكرة عن مدى جهل إدارة أوباما بشؤون الشرق الأوسط والخليج. أين مشكلة إيران عندما تسمح لنفسها بالتدخل الوقح في الشؤون الداخلية للبحرين، ما دامت إدارة أوباما قرّرت الوقوف موقف المتفرّج من التهديدات التي تتعرّض لها الدول الخليجية؟ على الرغم من كلّ التحديات التي تواجه لبنان، حيث تمنع إيران انتخاب رئيس للجمهورية وتصرّ في الوقت ذاته على خلق مشاكل ومتاعب للحكومة التي يرأسها تمام سلام عبر أدواتها المعروفة، لن يكون الوطن الصغير لقمة سائغة. يستطيع حسن نصرالله التصعيد مقدار ما يشاء. ما لا يستطيعه هو هزيمة لبنان واللبنانيين وذلك بغض النظر عن كل الجهود المبذولة من أجل جعل البؤس ينتشر في كل بقعة لبنانية، خصوصا في بيروت الغارقة في النفايات. بالنسبة إلى البحرين، ليس ما يشير إلى أن دول الخليج العربي، على رأسها المملكة العربية السعودية، مستعدة للرضوخ للإملاءات الإيرانية بأيّ شكل. لم تستشر دول مجلس التعاون الولايات المتحدة عندما تدخلت في البحرين في العام 2011 بغية وضع حدّ للمارسات الإيرانية التي في أساسها الاستثمار في الغرائز المذهبية. لبنان يقاوم والبحرين تقاوم. البلدان الصغيران يقاومان المشروع التوسّعي الإيراني الذي يسعى في المرحلة الراهنة إلى جس النبض الأميركي في مرحلة ما بعد توقيع الاتفاق النووي. ما تتجاهله إيران هو أن شعب لبنان يقاوم مشروعها، نظراً إلى أنّه يعرف كم هو خطر عليه. الشعب اللبناني يدرك تماما خطورة سلاح «حزب الله» الموجه إلى صدور أبنائه العارية. اللبنانيون يدركون أن سلاح «حزب الله» هو سلاح إيراني قبل أي شيء آخر، كما إنّه سلاح مذهبي لا هدف له سوى تحويل لبنان مستعمرة إيرانية وذيل للهلال الفارسي الممتد من طهران إلى مارون الرأس في جنوب لبنان. لبنان لا يستأذن أحداً في مقاومته المشروع الإيراني. لا يستأذن لبنان «الشيطان الأكبر» ولا «الشيطان الأصغر». لبنان يقاوم لأن مصلحته في ذلك لا أكثر ولا أقلّ، وإن كانت هذه المقاومة تجتاز ظروفا في غاية الصعوبة والتعقيد. تتجاهل ايران أيضا أنّ البحرين ليست وحدها التي تقف في وجه المشروع التوسّعي الإيراني. كلّ العرب الشرفاء معها. دول الخليج معها. كذلك المغرب والأردن. لا اتكال في البحرين، لا على أميركا ولا على الدول الغربية. كلّ ما في الأمر أنّ إيران تختبر الإدارة الأميركية في المكان الخطأ. عاجلاً أم آجلاً، ستكتشف إيران ما إذا كان عليها التصرّف كدولة طبيعية، أو على الأصحّ هل تستطيع ذلك. وهذا يعني، في طبيعة الحال، الاعتراف بأنّ مشروعها التوسّعي غير قابل للحياة. تستطيع تخريب المنطقة، بما في ذلك إيران. تستطيع خلق كل نوع من الاضطرابات. تستطيع التسبب في نشر البؤس في لبنان وفي تفتيت سورية والعراق واليمن. تستطيع الرهان على سلاح الغرائز المذهبية والمتاجرة بالقدس وفلسطين والفلسطينيين. ولكن في نهاية المطاف هل تستطيع البناء؟ هل تستطيع البناء في إيران نفسها؟ ما يبعث على بعض التفاؤل أنّ ايران ما كانت لتقدم على ما أقدمت عليه، بتأخير ستة وثلاثين عاماً، إلّا بعد اكتشافها أنّ ثورتها، التي كانت في العام 1979، في حاجة إلى اعتراف بشرعيتها من جهتين. من الشعب الإيراني ومن «الشيطان الأكبر». هل من إفلاس أكبر من هذا الإفلاس؟ لماذا على بلدين صغيرين مثل لبنان والبحرين دفع الثمن الباهظ لهذا الإفلاس؟